جلست أنتظر بفارغ الصبر، مثلي كمثل الملايين من الإسبان، الذين خنقت أنفاسهم الأزمة الاقتصادية التي تمر حاصدة الأخضر واليابس على أراضي شبه الجزيرة الإيبيرية.
والناس هنا لا تكاد تتمالك أعصابها من الاتتنظار، حدث مهم ينتظره الشعب كل سنة يعبرون من خلاله على هامش الحرية المتاح لديهم ...
تقترب الساعة العاشرة ليلا. مائة من المنشغلين في الطاقم الإعلامي منهمكين بتجهيز المكان المناسب للشعب الذي سيلتقي برئيسه ليس بينه وبينهم رقيب ولا حسيب.
اليوم سيقول الشعب كلمته وعلى الرئيس أن يسمع. وهم يسألون وهو عليه أن يجيب.
مظهر رائع تصنعه أيدي الديموقراطية الإسبانية وهي توقف José Luis Rodríguez Zapatero أمام الملايين من أبناء وطنه يمثلون على تلك المائدة شتى شرائح المجتمع : الفلاحين والبنائين وأصحاب الشركات والمحاميين والمتقاعدين و… المعاقين .
مظهر يغري بالإعجاب والتقدير وصورة تبعث على الدهشة والانبهار، ماذا عساهم عليه اليوم مجتمعون ؟ أتراهم سينحنون لسعادة الرئيس تحميدا وتبجيلا ؟ أم تراهم سينحنون على يده يقبلونها تقديسا وتعظيما؟ هل سيحسون بالخنقة تعبر حناجرهم وهم يرون الرئيس ؟ أم سترتفع أصواتهم بصراخ الفرحة وهم يرون الزعيم المفدى وقاهر الجبابرة الذي بنى لهم العز وشيد لهم المجد والبنيان؟!!
لم يقف منهم أحد وإنما هو الذي وقف ولم ينحن منهم أحد وإنما هو الذي ركع وطأطأ رأسه يسمع لكلامهم, وبلع الرئيس ريقه بعد أن جفت حنجرته وتعرى صدره ليتلقى الضربات الموجعة والكلمات اللاذعة .
سعادة الرئيس: من أين لك هذا؟ وأين أموال الدولة هل وضعتها في جيبك بعد أن ركبت على كرسيك بأسمائنا وعلوت مقامك بأتعابنا؟
سعادة الرئيس: قد أنهكنا الدهر وأنتم تضحكون وأزهقت أرواحنا يد الفقر وأنتم في أبراجكم تتفرجون ؟ لماذا تقولون ما لا تفعلون ، أفلا تعقلون؟
سعادة الرئيس: تنفخون فينا روح الوطن وانتم تركبون سيارات فارهة من صنع الألمان والأمريكان و SEAT لمن؟ للفقراء من أبناء الوطن؟!!
وتنشرون باليمنى فينا خطاب الديموقراطية والعمل على نشر الحرية حتى يعيش الإنسان في سلام جنبا إلى جنب مع أخيه الإنسان وباليد اليسرى ترسلون أسلحتكم حتى يغتال السفاحون كرامة البشر وحقهم في الماء والهواء والوطن ؟!!
كم قتلت أسلحتكم التي أرسلتموها إلى إسرائيل من طفل في غزة ؟
وكم استباحت من حرمة في أرض الديانات ؟
ما أحلى كلامك سيد سباطيرو ولكن ما أتفه مواقفك وأمرها ؟
أَخبرنا ، كم ارتكبتَ في حق شعبك من أخطاء ؟
شعبكم يعاني أزمة المال والسكن، والخبز والماء والعيش الحسن.
أشبعتمونا خطاباتكم المعسولة وكلماتكم الدسمة التي لم تطعمنا من جوع ولم تروينا من ظمأ...
واحمر وجه الزعيم وتصبب جبينه عرقا وتوترت أعصابه وزاد أمام الحاضرين قلقه واعتراه مس من شيطان السياسة وحنكتها ولكنه أوحى إليه بما أوحى من عجيب الإجابة التي أسكت بها الحاضرين وانفض، المجلس بما لا تشتهيه أنفس الممثلين الحقيقيين للشعب، بانعتاقة نحو فرج قريب من أزمة طال أمدها ولا يظهر لهم في الأفق مستقبل لنهايتها.
وأمام هذا الغموض وتلك الإحجامات، انتهى بي الأمر في بحر من الأفكار ،ونظرت في أمري أين رمت بي الأقدار ، غريب عن الأهل والدار إلى من أشكو ظلم الحاكم الجبار إلا الله الواحد القهار.
ووجت نفسي أسبح في ظلام عميق وقلبت علي نفسي المواجع وسبحت في التاريخ وتهت في رحلة من الخيال الجميل أتذكر فيه مجد الإسلام وعز قومه يوم أن كان الحكم شعاره العدل وعملته الكرامة . وبان لي عن قرب عمر ابن الخطاب أمام الشعب في موقف شبيه بذلك الذي سبق .
أيها الناس : (إن رأيتم في إعوجاجا فقوموني. فيندب له رجل من عامة المسلمين يقول: لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بحد سيوفنا. فما يزيد عمر على أن يقول: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بحد سيفه).
فأخذني الوجد إلى مجد عتيد قد ولى وإلى زمن بعيد قد مضى وحلمت كما يحلم أبناء كل الأحرار أن أعيش بلا قيد ولا طوق ، أن أفكر بصوت مرتفع بعيدا عن كل الأغلال ، حلمت أن الحاكم في دولتي واقف يسأله الناس وليس بينه وبينهم حجاب الرق ولا صور ظاهره الرحمة وباطنه من قبله الخوف والعذاب ، حلمت أن يحكمنا البشر من جلدتنا ومن طين كالطين الذي به خلقنا لا من سلالة ذلك الذي قال :
”أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته وأقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، قد جعلني الله عليه قفلا، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني وإذا شاء أن يقفلني قفلني“...
وما زلت ثملا من نشوة الحرية التي أحلم بها حتى تسسللت إلى نفسي أصابع القدر. فقالت انهض يا هذا فإنك من البشر. وأولئك قوم فوق حكمة وقدر. فكاد رأسي من هول أمري ينفجر، أهم رعاة مبصرون وما نحن الشعب إلا عميان أو قطعان أغنام.؟!!
وقلت يا أهل الوطن :
حتى متى لا نرى عدلاً نسر به ... ولا نرى لولاة الحق أعوانا
يا للرجال بداء لا دواء له ... وقائد في عمى يقتاد عميانا
تمسكوا بحق الله قائمين به ... إذا تلون أهل الجور ألوانا
فبكيت دمعا على قومي ومجدهم حتى جف دمعي وظل مني الدم ينسكبْ
فصبرت نفسي على يوم فيه تنقشع الظلم ، وجهاد صادق تنجلي به عنى المحن، وغد قريب يوم يقوم الناس لرب العالمين، فيومئذ يسأل حاكمي عمن حكَم. وعن آلاف الجوعى والعرايا والثكالى والمفقرين. وعن بطون الحاكمين التي انتفخت بأموال اليتامى والمساكين . والخدود المنتفخة نفخا وزمرا على جراحات المنكوبين. وعن الذين أوتوا الكتاب في الدنيا باليمين فصاروا عبرة للخارجين عن القانون والمارقين على نظام الظالمين.
كل هذا آت ورب العالمين ولدينا في ذلك الحق واليقين و (إنك ميت وانهم ميتون ، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) و (سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) صدق الله العظيم
محمد بنعبد الرحيم
مورسيا / اسبانيا
0 comentarios:
Publicar un comentario