lunes, 9 de mayo de 2011

ونبلوكم بالشر والخير فتنة -2-

0 comentarios
ان البلايا تطل على الناس في كل صباح كما تطلع أشعة الشمس المحرقة في واضحة النهار ، فتتبع الناس من عل ٍلتكشف خباياهم للعيان فيبدون كما تظهر ظلالهم تحت الضوء الساطع مرة مثل حجم ظواهرهم ومرة أكبر ومرة لا يظهر منهم شيء .
فهكذا ينال الكل نصيبه وقسطه بدون مراوغة .

   فقد يأتيه البلاء من جهة المال  فيصاب بمصاب عظيم فيصبح بعدما كانت الدنيا مشرقة في وجهه،  ترخي عليه ستورها  القاتمة فلا يقدم فيها ولا يؤخر ، وبعدما كان الغنى له رفيق درب صالح يأتيه الفقر برفقة شؤم يتمنى الفرار منه ولا يستطيع ، فمن ظن أنه ملك كل شيء فقد خسر أول ما خسر نفسه وقلبه ، ومثله إن رأى الدنيا يوما تنكرت وزُفت لغيره سخط وتذمر ناقما على الزمان متهما اياه بالفوضى والعبث،  فكيف هذا الزمان بدرجة من الغباء حيث لا يفرق بين الشرفاء والسوقى؟ !
يحكى أن داود عليه الصلاة والسلام دخل غاراً، فوجد فيه رجلا ميتاً وعند رأسه لوح مكتوب فيه، أنا فلان ابن فلان الملك عشت ألف عام، وبنيت ألف مدينة، وهزمت ألف جيش، ثم صار أمري إلى أن بعثت زنبيلا من الدراهم في رغيف فلم يوجد، ثم بعثت زنبيلا من الجواهر فلم يوجد، فدققت الجواهر واستفيتها فمت مكاني، فمن أصبح وله رغيف وهو يحسب أن على وجه الأرض أغنى منه أماته الله كما أماتني.
وقال مالك بن دينار: مررت بقصر تضرب فيه الجواري بالدفوف ويقلن:
ألا يا دار لا يدخلك حزن ... ولا يغدر بصاحبك الزمان
فنعم الدار تأوي كل ضيف ... إذا ما ضاق بالضيف المكان
ثم مررت عليه بعد حين وهو خراب وبه عجوزاً، فسألتها عما كنت رأيتُ وسمعتُ، فقالت: يا عبد الله إن الله يغير ولا يتغير والموت غالب كل مخلوق، قد والله دخل بها الحزن وذهب بأهلها الزمان."

         وان أردت ارجع الى التاريخ يحدثك بالعجب العجاب: كم من ممالك شيدت،  وامارات زينت ، ودور زخرفت ، وخزائن عمرت ، تسلل اليهم القدر خُفية فلم يُبْقِ  منهم ولم يذر ، والموت لواح للبشر والى ربك يومئذ المستقر .
فرح بنوا أمية دهرا من الزمان بملكهم العظيم، ولكن ما أن تمت لهم نشوة الظفر بالسعادة الموهومة  حتى لاح لهم  سيف بني العباس فأبادهم وألقى جثثهم للكلاب في شوارع المدينة .
ولما قتل عامر بن إسماعيل مروان بن محمد – آخر ملوك بني أمية - ونزل في داره وقعد على فرشه. دخلت عليه عبدة بنت مروان فقالت: يا عامر: إن دهراً أنزل مروان عن فرشه وأقعدك عليه لقد أبلغ في عظتك.
فما أن تمكن لأصحاب الرايات السود حُكْمُ الأرض،  حتى عمل فيهم التاريخ بسننه ، فاختلطت دماؤهم بماء الفرات في مذبحة وقَّعها التتار نصرا على جبين المتعنتين.
 وعندما تخذل الأقدار أصحاب البطون ساعتها لا تنفعهم خزائن الأرض للحصول على  رغيف خبز .
يحكي  المقريزيُّ عن دار مصرَ بين سنتي ٨٠٨ - ٧٩٦ ه الطَّّوَام فيقول في كتابه  "إغاثة الأمة بكشف الغمة"  ص14:  "... أُكِلت الكلاب والقطط حتى قَلَّتِ الكلاب، فبيع كلبٌ ليُؤكل بخمسة دنانير، وتزايد الناس حتى أَكَل الناس بعضهم بعضًا، وتحرر الناس، فكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ومعهم سلب وحبال فيها كلاليب، فإذا مر بهم أحد ألقوها عليه ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه. ثم آل الأمر إلى أن باع المستنصر كل ما في قصره من ذخائر وثياب وأثاث وسلاح وغيره، وصار يجلس على حصير، وتعطلت دواوينه، وذهب وقاره، وكانت نساء القصور يخرجن ناشرات شعورهن يصحن: "الجوع! الجوع!" يردن المسير إلى العراق، فيسقطن عند المصلى، ويمتن  جوعًا" 
  
    والمقريزي هذا عالم من من علماء التاريخ النبهاء الى الأسباب الخفية التي تعمل عملها في النفس والاجتماع،  فلا شك أن تلميذ ابن خلدون لم يكن أقل شأنا من أستاذه العظيم .  فلا يكتفي مثل غيره من الجهلاء  بالنَّوح على مصائب الزمان ، ويجلس يُلقي التُّهمَ الجزاف على نهر النيل أنه هو المسؤول الوحيد عن ما أصاب الناس من كوارث !
صحيح أن لقانون الطبيعة في الكثير من الأحيان الأثر الكبير في  قلب الأمور وتغيير مسار الحياة ، ولكن التخلف البشري في فهم أسراراها جعلهم يكتفون بالصياح ويندبون الحظ البئيس .
 يقول المقريزي :  " ظن كثير من الناس أن هذه المحن لم يكن في ما مضى مثلها ولا مر في زمن شبهها، وتجاوزوا الحد فقالوا لا يمكن زوالها، ولا يكون أبدًا من الخلق انفصالها، وذلك أنهم قوم لا يفقهون، وبأسباب الحوادث جاهلون، ومع العوائد واقفون، ومن روح الله آيسون، ومن تأمل هذا الحادث من بدايته إلى نهايته وعرفه من أوله إلى غايته علم أن ما بالناس سوى تدبير الزعماء والحكام، وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد".
وكم  دول تعيش اليوم تحت خط الفقر ولا علاقة للسماء ولا للأرض فيما هم فيه من مجاعة ! يعمل فيهم التاريخ كعمل الزرع في دورته من البداية حتى النهاية؛ يُزرعون ويحصدون فيُطحنون ويعُجنون ويخبزون ليأكل الأغنياء في الأخير بأبخس الأثمان .
ولله الأمر من قبل ومن بعد .
*  *  *  *
وقد يصيب الانسانَ البلاءُ  في صحته فكما يحس الكثيرون بأن العافية هي رأس مال الحياة لذلك لا يمكنهم التفريط فيها ولو بكنوز الدنيا ذهبا ، وكم من سليم البدن مرشوق القَوام غافل ينسى أن معه نعمة يحسده عليها الكثيرون ، والانسان عادة لا يفكر الا فيما يفقد .
    ما أضعف ابن آدم!  تراه طويلا عريضا متماسك البنية قويٌّ متين،  قد يحسب نفسه الجبلَ الأشمَّ رافعا أنفه عاليا يناطح السماء، فان أصابته شوكة أو لسعته عقرب رأيت الدمع يجري من خده كأنه طفل رضيع! فينزل من برجه العاجي الى أرض المذلة منطرحا أمام قوة الله مستعطفا مسترحما  مقرا بالضعف والهوان.
جاء في الحديث : (الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه الا المرضى ) ، فليس هنالك نعمة يحسد عليها المريض أحدا من الناس مثل نعمة العافية ، ولربما تمنى  الغني صاحب الجاه والنفوذ عند تلك اللحظات أن يكون مثل ذاك الفقير المرقعةِ ملابسُه لما يرى من أثر نعمة العافية تسري في عروقه ، والفقير عابس الوجه ليس له من الهم الا كيف يدرك ما عند الغني وقد نسي أنه عنده من الخير ما هو محسود عليه .  ! 
يروى أن عبد الملك بن مروان لما جرَّعه مَرضُ الموتِ غُصص المرارة ، نظر من شرفة قصره الى فلاح يحرث أرضه بهمة ونشاط ، فقال عبد الملك يا ليتني ما كنت ملكا ، يا ليتني كنت فلاحا لا لي ولا علي،  يا ليت أمي لم تلدني ..
فوصل الخبر سعيد بن المسيب رحمه الله فقال :  الحمد لله الذي جعلهم يتمنون مقامنا عند موتهم ولا نتمنى مقامهم عند موتنا.
ويحكى أن هارون الرشيد أدخل عليه أحدا من الوعاظ يذكره بالله وعمل الاخرة : فقال له يا أمير المؤمنين : أتُرى لو أن شربة من الماء حُبس عنك شُربها أكنت مفتديها بنصف مُلكك ؟  قال:  بلى . قال أرأيت إن حبس عليك إخراجها أكنت مفتديها بنصف ملكك الآخر ؟ قال : بلى . قال الواعظ : فلا خير في ملك لا يساوي شربة ماء .
وفي عصرنا هذا يدفع الأغنياء أموالا طائلة لشراء كِلية أو زراعة قلب أو استبدال عضو بآخر ، ويمشي الكثيرون وقد علقوا على صدورهم أنابيب يستنشقون منها هواء مصطنعا ينفذ الى صدورهم يقاومون به في ألم ما تبقَّى لهم من عُمُر ، وآخرون يعيشون بلا حركة ، ويأكلون بلا لذة، ويشربون ويخرج الماء من غير منفذه المعتاد ، وان زادوا جرعة فوق ما وصاهم به طبيبهم من دواء رأيتهم بعد ذلك جثثا معفنة ولحما ممزقا في منظر مرعب .
  والصحيح المعافى لو نظر الى مثل هؤلاء  يسارعون القدر من أجل البقاء، لرحم نفسه بعمل يرتاح به قبل أن يصير الى ما صاروا اليه، ولكن الناس قليلا ما يتعظون حتى اذا  ما حان موعدهم لدخول مختبر القلوب  فلا تجد فيهم صبرا على تحمل أو جلدا على عناء ، فيسلمون أنفسهم للشكوى والريبة ، ويتهمون القدر بقسوة القلب وفساد الضمير !!
*  *  *  *
ولعل أعظم خديعة يخدعُ بها الزمانُ الناسَ في  عصرنا هذا الأباءَ والأمهاتِ في أبنائهم ، تحت ظلال فتنٍ منظمة تشرف عليها جمعيات وهيئات ومنظمات، وتُصرف من أجل إفساد الأخلاق ونشر الرذيلة وتشويه الأذواق أموالٌ طائلة . والآباء يفنون أعمارهم  يخططون ويدبرون لأبنائهم كيف يعيشونهم الحاضر في رفاهية ويضمنون لهم المستقبل في اطمئنان،  فيجمعون "الأورو" بعد أخيه خوفا من غدر الزمان . لكنه يأتيهم من جهة أبنائهم لا من جهة أموالهم، فاذا أرادوا حصيلة ما جمعوا وجدوا كيانا مشتتا :  عاطفة فارغة وعقل متخلف وايمان مخجل بالفضائل ، وهوية ممزقة، ولغة مضحكة ... فعبثا بعد ذلك يحاولون لم شعث هته الأجزاء المتفرقة  التي أخذ منها الشارع جزءا والمدرسة جزءا والاعلام جزءا وأصحاب السوء الجزء الأوفر . فهذا الكيان الصغير المُبعثر لا يصلح لشيء من جد الحياة إن لم يكن هو فساد الحياة كلها بعد ذلك . حقائق قد يغفل عنها الآباء وهي أمامهم ينظرون اليها باستمرار بين باقي البشر، ولكنهم يعتقدون أن الناس غير الناس ويظنون أنهم ان أداروا ظهراً لأسباب الكون سوف يعجز عن رؤيتهم،  فلا يلبثوا مليا حتى تلطم وجوههم الأقدار بالقاصمة ما لها من عاصمة .
*  *  *  *
ان الدهر لا يتغير بالناس الا بما فيه من أسباب التغيير ففيه معاني الصلاح والفسادِ نفسَ الوقت. والكل يأخذ نصيبه باختياره التام، والله تعالى خلق الارادات ولكنه لا يزودها الا بما تريد وتشتهي .  {ولا يظلم ربك أحدا} ، قد يمد الكثيرون أصابع التُّهم الى القدر مشككين في حسن تدبيره ! فكأنما الأقدار تسللت خلسة في الظلام وهم نيام فنقلتهم من حيث لا يشعرون الى ما لا يريدون ، فسرقت منهم أحلامهم المعسولة وأمانيهم  الكسولة .
وطبيعة البشر في كل زمان ومكان أنهم عادة لا ينسبون لأنفسهم الا الخير وحسن التدبير ، فان حالفتهم قسمة مسنونة محكمة بما يريدون عدُّوها ذكاء وتخطيطا وقدرة وقوة على مخادعة الطبيعة . وان جاءهم البلاء وجهده كانوا أضعف من أن يقروا بالخذلان ، أو يعزوا الى أنفسم النقصان ، وأشاروا الى الصدفة أنها لم تؤيدهم أو الى الحظ أنه لم يواتيهم ، وحتى يرتاحوا بالجملة من تعب الضمير ومراجعة النفس ينسبون الى القدر العبثية والفوضى ، فالقدر في نظرهم أحمق لا يعقل !  قد يظهر من حركته أنه كذلك في بعض الأحيان بعدم تفرقته  بين ظالم ومظلوم وشاب ورضيع وجائع ومتخم وفقير ومترف ...!
قد نسخط أحيانا لأن عزيزا علينا انتشله الموت من بين آلافِ من نعرف ، أو نستغرب عندما تنشق الأرض فتبلع الضعفاء  والمساكين وتترك الأغنياء والمترفين يتنعمون ، أو نحنق مرة لأن قاصفا من الريح اختار الأشقياء المستضعفين دون المستكبرين !!
قد يقوم الكثيرُ من رجال الدين فيقولون بأن الله يصفي الحسابات مع الذين لا يؤمنون أو ينتقم من أهل الفساد في الأرض ، ولكن عندما يصاب بنفس الأسبابِ الذين يؤمنون والذين يصلونَ هناك يبلع الكثيرون ألسنتهم في حيرة !
وقد يعتقد بعضهم جحودا أن الكل قد اجتمع ضدهم ؛ "الله والناس والطبيعة" ، فمن خُلق في نظرهم  لينال الشقاء فلن يجد السعادة مهما حاول إلى ذلك من سبيل ، ومن اختيرت له السعادة فلن يشقى ولو اضطرب الكون ضده تظل له لصيقة لا تحيد!!

سوف يظل الناس يجادلون من غير طائل حول مكنون تقلب الأقدار  وأسرار تغير الأحوال ، وأظن في الأخير أن كل واحد سوف يعطي لنفسه تفسيرا  يليق بتجربته مع أزمته الخاصة ، والقَدَر لا يحابي أحدا فهو عابر يعمل عمله بإتقان محكم ، علم الناس ذلك أم لم يعلموا ...

0 comentarios:

Publicar un comentario