
ومن ذلك فالله خلق الدنيا وجعلها دارا للعبور والانتقال الى دار هي خير عنده وأبقى. والدنيا كما يظهر من اسمها ، دنيئة حقيرة سافلة . والدناءة والخسة ما أن يجتمعوا حتى يدلوا على معنى واضح هو التقلب والالتواء والتغير والمكر والخداع . لذلك من ظن ان الدنيا تدوم له أو لغيره على حال فقد أمن على ما لا يُستأمن ، وخدع نفسه بأكبر خدعة يعرفها العقلاء . إنه كما تدور الأفلاك في مجراتها والكواكب في أذنابها على نظام ثابت لا يتغير ، كذلك تدور الدنيا على أصحابها ، والأقدار على أهلها ، فتحولهم من حال الى حال، وهي شاقة طريقها لا تعرف محاباة لذي مقام أو مجاملة لذي سلطان .
فكم من غني بات مطمئنا على خزائنه فما أصبح عليه الصبح حتى وجد نفسه يلحس الثرى بحثا عن لقمة ولا يجد ! وكم من فقير حلاه الزمان بأثواب المهانة ، مرَّ عليه قدَرُ السَّعدِ فما خلاَّهُ الا والدنيا ترقص له فرحا وسرورا . وكم من صحيح معافا كان يركض في قوة مزهوا بعظمه ولحمه وشحمه ، فقرعته مطاريق الأقدار فخر صريع البدن مشلول القوام ! ...
كذلك تمر اللحظات والأيام على الناس، فمن بينهم المتيقظ العارف بخبايا أحوالها، فما أن تمر عليه ساعة نحس الا وهو مطمئن أن بعدها ساعة انبعاث ، ولا ساعة شدة الا بعدها فرج قريب ، وان كان يوما في سعة ويسر فلا يستغرب أبدا ان تنكر له الزمن دهرا فانه بعدها معانقه .
وهذا المؤمن يعيش بين أكف الأيام تقلبه من جهة لأخرى وهو خال الفؤاد راض بقضاء الله وقدره ، أما ضعفاء القلوب والجاهلون فان تقلب الأقدار يقلقهم ويقض من مضاجعهم ويحرضهم على السخط والجحود والنكران .
و الابتلاءات لا تنتظر أحدا رضي عنها أو سخط فهي تشق طريقها في مهل تعمل عملها في الوجود والبشر. والكل أمامها سواء لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم خدامهم وملوكهم ...
قال يونس بن ميسرة: ما قال الناس لشيء طوبى إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء.
وقال أحد الشعراء :
أف للدنيا إذا كانت كذا ... أنا منها في بلاء وأذى
إن صفا عيش امرئ في صحبها ... جرعته ممسياً كأس الردى
ولقد كنت إذا ما قيل من ... أنعمُ العالم عيشاً قيل ذا
ان من يضمن الدنيا على نفسه فقد ضمن الخواء واستمسك بالهواء وليس لعلته دواء ، ما هو الا كالراعي يستخلف الذئب على غنمه ، وذلك هو المخالفة البينة لعمل الناموس وقانون الكون .
قد يظن الكثيرون أن الله تعالى كف عنهم البلاء في الدنيا لأن لهم عنده سابقة فضل دون غيرهم أو اتخذوا لهم مكانة رفيعة دون الخلائق فهم فوق مستوى الامتحان ، أو كأنهم وقعوا مع الله عهدا أنه لن يصيبهم الا بما يشتهون !!
نعم ، قد يهملهم الله لأجل معلوم ، لا لسواد عيونهم ولكن الله قاض فيهم قضاء ان أمهلهُ لن يهمله.
* * * *
قد يبتلى الانسان في الدنيا الفانية ابتلاءات كثيرة تتعدد بتنوع معطيات الحياة وقدر حاجة الناس لكل شيء منها ، وأحوج ما يعيش من أجله الانسان هو المبدأ والعقيدة والايمان ، فما أن يُنَصِّب أحد نفسه لخدمة القيم والفضيلة الا وهو يشتري لنفسه مقعدا في الجنة دونه ضرب الرقاب وجهد البلاء .
يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو يقول :" اللهم أعطني خير ما أعطيته عبادك الصالحين . فقال له النبي الكريم : اذا يراق دمك وتعقر فرسك .
إن الايمان ليس تجربة فلسفية يعيشها الانسان بعقل فارغ وهو يتفرج على الناس وأحوالهم من برج عاج ، أو احساس قلبي يترجمه بعد ذلك واقع الشخص نفسه على أنه عاطفة عابرة مع رياح الاختبار .
يقول المولى عز وجل : { ألم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) . }
ويقول : {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}.
يقول السيد قطب رحمه الله في "الظلال" : "إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف؛ وأمانة ذات أعباء؛ وجهاد يحتاج إلى صبر ، وجهد يحتاج إلى احتمال . فلا يكفي أن يقول الناس : آمنا . وهم لا يتركون لهذه الدعوى ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم . كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به."
فكم من مُدّعٍ تبطل دعواه عند الأزمات ، وكم من صاحب مبدئ يظهر بعد الشدة أنه أول المتنكرين لأقواله ، وكم من متحمس متشدق كثير الصياح اذا حمي الوطيس رأيت رجله وصلت قفاه من الرعب. ولكن الله لا يبتلي ليعلم فهو علام الغيوب ، انما ليكشف للناس حقائق بعضهم البعض لعلهم يتعظون .
ويظهر من عمل التاريخ أن أشد الممتحَنين في الدنيا أصحاب المبادئ السامية المتطلعون لتغيير مسار الزمان واصلاح فساد القلوب والعقول ، وخير من تشرف بهذا المقام أنبياء الله تعالى ، لأنهم دعوا بصدق الى أعظم الحقائق في الوجود .
فنوح عليه السلام أفنى السنين الطوال في الدعوة وما آمن معه الا قليل، فلما رأى أنه لا فائدة من إصلاحهم دعا عليهم فاجتثهم الطوفان كورم خبيث حتى لا يستشري داؤهم في أجيال المستقبل .
وابراهيم أنكر عليهم نشوة الصنم الذي يعبدون، فأضرموا له نارا عظيمة كي يتأكدوا أنه لن يقلقهم بعد ذلك ويستفز سكرتهم العمياء . فأوقف الله عمل النار، والذي خلق صفة الاحراق في النار هو الذي أبطلها ، والله يفعل ما يشاء - وعلماء الفيزياء اليوم يؤكدون أنه لا علاقة بين الأسباب والمسببات الا من جهة الاعتياد على مشاهدتها على تلك الحال بانتظام - .
وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكل أخذ الله بذنبه عندما أذاقوا أنبياءَهُم المحن والأهوال وهم لا ينشدون لهم الا الخير والنجاة ، فمنهم من اغتالوه قتلا، ومنهم من نفوه عن أرضه شريدا طريدا ، والله بعدها يطهر الأرض من الخبث وتبقى خالصة يرثها عباده الصالحون .
ونبينا صلى الله عليه وسلم تحمل القسط الأوفر من الشدائد ، فحُرِّض عليه -وهو خير خلق الله- الحمقى والمجانين وأشبعوه إهانات وسبا وشتما من كل حدب وصوب .
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَقَدْ أُوذِيتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَىَّ ثَالِثَةٌ وَمَا لِىَ وَلِبِلاَلٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ مَا وَارَى إِبِطُ بِلاَلٍ »
انهم حاولوا المساس بالحقيقة في أسمى صورهها فكانت مجهوداتهم عبثا كما تحاول "قملة" نكرة أن تدنس بأوساخها بحرا عاجيا ، أو حشرة تافهةٌ حمقاءُ ترفرف بجناحيها تحاول تغيير مسار العاصفة !!
والسنن الكونية تقول دائما أن الصادقين في مبادئهم الداعين لها بيقين يؤدون عاجلا أو آجلا ضريبة قاسية على جرأتهم من أجل الحق ، فلا شك أن أصحاب المصالح والبطون المنتفخة من ظلم العباد لن يتركوهم ساعة زمن يستريحون بأمان لأنهم انذار سوء ورُسُل شؤم على استغلالهم وتجبرهم ، والله يضرب بعض الناس ببعض، ليظهر لهم بعض ملحمة الاشتباك مع السنن من يخسر المعركة ، ومن يخرج منها بأقل خسارة (خسارة الصدق والايمان والثبات ) .
إن الابتلاءات زاد يفرق على الناس كل حسب إيمانه وقوة يقينه، وجرعات قد تغصص الانسان مرارةً لحين ، ولكنها لا تلبث أن تداويه من علل خطيرة ربما كان فيها حتفه . وكما أن المناعات الجسمانية تختلف من شخص لآخرَ في تحمل الأدواء ومقاومتها كذلك القلوب تختلف في الثبات على القواصم المؤذية باختلاف محركات الايمان فيها . فقلوب الأنبياء ليس كقلوب غيرهم في الثبات على المبدئ .
روى سعد بن أبي وقاص قال : قلت يا رسول الله أيّ الناس أشد بلاء؟ قال : «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صُلْباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقّة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة».
ويفسر هذا ما لاقاه المسلمون الأوائل من شقاء وعذاب في تحمل أعباء الدعوة ، بين مستَفزٍّ ومجوع ثم مقتول ومذبوح ومطرود . والنبي يعد الكل بالصبر فالحق لا بد أن يقول كلمته في الأرض .
يقول غاندي في فلسفة المقاومة السلمية : "في الأول يهملونكم ثم يستهزئون بكم ثم يحاربونكم ثم تنتصرون ، سوف يبكون لأن سماع تهميش عظامكم سوف يرعبهم وفرقعة جماجمكم سوف يسقطهم صرعى من الغثيان ...
لقد صنعت المحن رجالا أشداء لا تلين بهم رياح الفتن الى غير وجهة الحق أبدا ، فثبت هؤلاء على الجادة بعدما تزعزع الغشاشون الذين أسلموا التحاقا بالأقوى أو طمعا في الغنائم ، والكثيرون كانوا مرتاحين لإسلام الصلاة والتراتيل { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} ولا شك أن اسلام "عمار ، ومصعب، وعلي" ليس هو اسلام "يزيد بن معاوية" الذي كان يلاعب القرود، ولا اسلام "الوليد بن عقبة بن أبي معيط" الذي صلى سكرانا بالناس الصبح أربعا حتى جلده عثمانُ عبرة لغيره من المستهترين الذين كان حظهم من الدين دراهم ألَّفَ النبي عليه السلام بها قلوبهم ليُكَثِّر بهم سواد المسلمين .
0 comentarios:
Publicar un comentario