martes, 20 de agosto de 2013

محيي الدين النووي

0 comentarios
محيي الدين النووي
إن حقاً على كل مُطَالعٍ للكتاب، أن يقف على مُفَصَّل حياة الإمام النووي، لا على مُجْمَلِهَا؛ فإنه شيخ الإسلام والمسلمين، وعُمْدةُ الفقهاءِ والمحدِّثين، الإمامُ، الزاهدُ، الوَرِعُ، العابدُ، القُدْوةُ، صاحبُ الخِصال الحميدة، والتصانيفِ المُفيدة، المُجْمَعُ على فضله وإخلاصِه، وجلالته وإمامته.

 عصر الإمام النووي:

 -  أما من الناحية السياسية : فقد عاش النووي ـ رحمه الله تعالى ـ آخرَ عصر الأيوبيين، وكلَّ عصر الملك الظاهر بيبرس من المماليك، وتمتاز هذه الفترة بنوع من الاستقرار، ولكنها كانت فترة عصيبة، فقد تظاهر فيها على غزو بلاد الشام قبلها قُوَّتا البغي والشر والكفر من الصليبيين والتَّتار، وقد تحققت فيها بلاد الشام ودمشقُ خصوصاً بالاطمئنان الحَذِرِ، والاستقرار المتحفِّز، ولكنه إذا قيس بما قبله من آخر عهود الأيوبيين، فإنه عهد ميمونٌ مبارَكٌ، لولا بعضُ الهَنَات.

 -   وأما من الناحية العلمية    فإن هذا العصر والذي بعده ـ أي: القرنين السابع والثامن الهجريين ـ من أزهر العصور، فقد حَفَل بالكثير من العلماء المتمكنين، الذين تركوا من المؤلفات الناضجَ المفيد.
    - ومن أبرز هؤلاء الذين امتاز بهم القرن السابع في علوم الدين:
-        أبو عمرو بن الصلاح إمامُ المحدّثين
-        والرافعيُّ كبيرُ فقهاء الشافعية في ’قزوين‘
-        وإسماعيلُ بن عبد الكريم المعروف بابن المعلم شيخ الحنفية في وقته
-        وعبد الرحمن بن محمد بن عساكر، وكان فقيهَ وقته...

والكلمة الجامعة لحال هذا العصر من ناحيته العلمية أنه لم يكن عصرُ إبداع كعصور الاجتهاد، فهو بجملته عصرُ نقل متزن، وتقليدٍ واع، وجَمْعٍ في تحفُّظٍ، وتحقيق وتحريرٍ وتصحيح وتهذيب، بلْ أحياناً اجتهادٍ مُقيدٍ حُرٍّ.
   * والظاهرة التي لا تخفى في علماء هذا العصر أنهم ـ إلا من شذ ـ يحرصون مع علمهم على العمل، فالتقوى رداؤهم، والورع يَحدُو بهِم، وكثرة العبادة عملُهم في اليوم الليلة

مولد النووب واسمه ونسبته:
هو أبو زكريا محيي الدين يحيى بن الشيخ الزاهد الورع وليِّ الله أبي يحيى شرفِ بنِ مُرِّي بنِ حسنِ بنِ حسينِ بنِ محمدِ بن جُمعةَ بن حزامٍ الحزامي النوويّ.

   - وكان الإمام النووي يكره من يلقبه بمحيي الدين، ونقل عنه أنه قال: ’لا أجعل في حل من لقبني محيي الدين‘؛ تواضعاً لله تعالى، أو لأن الدين حيٌّ ثابت غيرُ محتاجٍ إلى مَنْ يحييه.


        ولد النووي في المحرم من سنة (631ﻫ) في ’نوى‘. ونشأ في كنف أبيه ورعايته، وكان أبوه مستورَ الحال، مبارَكاً له في رزقه.

   - وأبوه كان دكانياً بنوى، وكان شيخاً مباركاً، مات سنة (685ﻫ)؛ أي: بعد وفاة ولده النووي بتسع سنين، وصُلِّي عليه في دمشق صلاة الغائب؛ لما اشتهر عنه من علم وصلاح.

·        وكأن الله قد أعده منذ طفولته وصباه لحمل عبء الوراثة النبوية في العلم والورع والصلاح ...

      -  فقال عنه بعض الصالحين: ’إنه حينَ وُلد كُتب من الصادقين‘.

      - ويروى أنه لما بلغ من العمر سبعَ سنين : كان نائماً ليلة السابع والعشرين من رمضان بجانب والده، فانتبه نحوَ منتصف الليل، وأيقظ أباه وقال: يا أبت! ما هذا الضوء الذي قد ملأ الدار؟ فاستيقظ أهلُه جميعاً، فلم يروا شيئاً. قال والده: فعرفتُ أنها ليلة القدر.

     - ولما بلغ عشرَ سنين، جعله أبوه في دُكَّان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن.

     - وفي سنة نيف وأربعين وست مئة، مر بقرية ’نوى‘ الشيخُ الصالح ياسين بن يوسف المراكشي المشهور بولايته، فرأى النوويَّ وهو ابنُ عشرِ سنين، والصبيانُ يُكْرِهونه على اللعب معهم، وهو يهربُ منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، يقول الشيخُ ياسين: فوقع في قلبي محبتُه، فأتيت الذي يقُرئه القرآن، فوصَّيتُه به، وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون أعلمَ أهل زمانه، وأزهدَهم، وينتفع الناس به. فقال لي: أمنِّجمٌ أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده، فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام.

  -  ولبث في بلده إلى الثامنةَ عشرةَ من عمره قبلَ أن يرتحل إلى دمشق، والظاهرُ أنه كان منصرفاً إلى إعانة أبيه في دكانه، ومقبلاً على التزوُّد بالقليل من العلم عند بعض الشيوخ من أهل العلم الذين لم تكن تخلو منهم قَصَبَةٌ أو قرية حينئذ.
طلب العلم :
    حَجُّ النووي والحمى وبداية الطلب :
يروي تلميذه ابن العطار: قال لي والده ـ رحمه الله ـ: لما توجهنا من نوى للرحيل، أَخَذته الحُمَّى، فلم تفارقْه إلى يوم عرفة، فلم يتأوَّهْ قطّ، فلما قضينا المناسكَ، ووصلنا إلى نوى، ونزل إلى دمشق، صبَّ الله عليه العلمَ صبّاً، ولم يزل يشتغل بالعلم، ويقتفي آثارَ شيخه المراكشي في العبادة والزهد والورع، وعدم إضاعة شيء من أوقاته إلى أن توفي ـ رحمه الله .

 - كما قال الذهبي: ولما رجع من حجة الإسلام، لاحت عليه أَماراتُ النجابة والفهم، وتزود بمَدَدٍ من الله في بيته الحرام، وبركات من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

   رحلته إلى دمشق، وتحصيله العلم:
قدم النووي دمشق مع والده أبي يحيى سنة تسع وأربعين وست مئة، وكان عمره ثماني عشرة سنة.

وكانت دمشق مَحَجَّ العلماء وطلبة العلم من أقطار العالم الإسلامي .

 - قال اليافعي: وسمعت من غير واحد أنه إنما اختار النزول بالرواحية على غيرها؛ لحلها؛ إذ هي من بناء بعض التجار، وكان قوتُه من جراية المدرسة لا غير، بل كان يتصدق منها، ثم ترك تعاطيها.

    جِدُّه في طلب العلم:

  - حكى عنه البدْرُ بن جماعة: أنه سأله عن نومه، فقال: إذا غلبني النومُ، استندت إلى الكتب لحظةً، وأنتبه.

ثم إنه كان ـ أول طلبه أيضاً ـ يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً:
درسين في ’الوسيط‘، وثالثاً في ’المهذب‘، ودرساً في ’الجمع بين الصحيحين‘، وخامساً في ’صحيح مسلم‘، ودرساً في ’اللمع‘ لابن جني في النحو، ودرساً في ’إصلاح المنطق‘ لابن السكِّيت في اللغة، ودرساً في التصريف، ودرساً في أصول الفقه، تارة في ’اللمع‘ لأبي إسحاق، وتارة في ’المنتخب‘ للفخر الرازي، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين، وهو التوحيد.

  - وقال النووي: بارك الله لي في وقتي واشتغالي، وأعانني عليه.

  - ويقول الذهبي: وضُرب به المثل في إكبابه على طلب العلم ليلاً ونهاراً، وهجرِه النومَ إلا عن غَلَبَة، وضبط أوقاته بلزوم الدرس، أو الكتابة، أو المطالعة، أو التردد على الشيوخ.

  - وذكر القطبُ اليونيني: أنه كان لا يَضيع له وقتٌ في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى إنه في ذهابه في الطريق وإيابه يشتغل في تكرار محفوظة، أو مطالعة، وإنه بقي على التحصيل ـ على هذا الوجه ـ ست سنين.

أضف إلى ذلك انشغاله بتعليم الطلبة، وقراءة الكتب، فإنه ما كان يضيع من وقته لحظة إلا في قراءة أو تعليم أو تأليف أو عبادة.
·        وقد أخذ النووي ـ رحمه الله ـ الفقهَ الشافعي على كبار علماء عصره، وبفترة وجيزة حفظ الفقه وأتقنه...

 -  وقد نوزع الشيخ مرة في نقلٍ عن ’الوسيط‘، فقال: ينازعونني في ’الوسيط‘، وقد طالعته أربع مئة مرة!

وقد بلغ من شهرته في الفقه وتحقيقه في عصره هو والرافعي من قبله
 إلى أن قال محمد بن علي بن عبد الواحد من علماء القرن الثامن منتقداً تقليدَ الناسِ لهذين الإمامين: ’الناسُ اليوم رافعيَّة لا شافعية، ونوويَّة لا نبويَّة‘.

  - وقال عنه الذهبي في ’سير النبلاء‘: ’وكان من سَعَة علمه عديمَ النظير، لا يرى الجدال، ولا تعجبه المبالغة في البحث، ويتأذى ممَّن يجادل، ويعرض عنه، وكان لا يتعانى لغط الفقهاء وعياطهم في البحث، بل يتكلم بتؤدةٍ ووقارٍ‘.

·        برع الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في علوم الحديث تماماً كما برع في الفقه :

 - وقلَّما اجتمعَ لعالم في الفقه إتقان لعلوم الحديث؛ فإنه سمع على شيوخه بالأسانيد العالية صحيح البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي، وموطأ مالك، ومسند الشافعي وأحمد والدارمي وأبي عوانة والإسفراييني وأبي يعلى الموصلي، وسنن ابن ماجه والدارقطني والبيهقي، و’شرح السنة‘ للبغوي، و’معالم التنزيل‘ له، وكتاب ’الأنساب‘ للزبير بن بكار، و’الخطب النباتية‘، و’رسالة القشيري‘، و’عمل اليوم والليلة‘ لابن السني، وكتاب ’الجامع لآداب الراوي والسامع‘ للخطيب البغدادي.

وقد قال السبكي في بيان ما أسعف النووي في الطلب :  وقد أسعف بالتأييد وساعدته المقادير ، فقربت منه كل بعيد ، قال : ولا شك أن ذلك يحتاج بعد الأهلية إلى ثلاثة أشياء
أحدها : فراغ البال ، واتساع الزمان ، وكان ـ رحمه الله ـ قد أوتي من ذلك الحظ الأوفى بحيث لم يكن له شاغل عن ذلك من تعيش ولا أهل.
الثاني : جمع الكتب التي يستعان بها على النظر والإطلاع على كلاء العلماء ، وكان رحمه الله قد حصل له من ذلك حظ وافر ، لسهولة ذلك في بلده في ذلك الوقت.
الثالث : حسن النية ، وكثرة الورع والزهد والأعمال الصالحة التي أشرقت أنوارها.
وكان ـ رحمه الله ـ قد اكتال من ذلك بالمكيال الأوفى

·        تلاميذه:

 - يقول تلميذه ابن العطار: ’وسمع منه خلقٌ كثير من العلماءِ والحفّاظِ والصُّدورِ والرؤساء، وتخَّرَج به الفقهاء، وسار علمه وفتاويه في الآفاق‘.

·        ـ مؤلَّفات الإمام النووي:
لا ينازع أحد ـ ممن له أدنى مُسْكَةٍ في العلم ـ إلى أن مَنْ له في العلم مرتبة شيخ الشيوخ، يُعَظِّمُ مؤلفات النووي ـ رحمه الله ـ في كل العلوم والفنون.
   ** والعظيم حقاً أن النووي عاش نحواً من ستٍّ وأربعين سنة، وترك من المؤلفات ما لو قسم على سني حياته، لكان نصيبُ كل يوم كُرَّاستين، فإذا علمنا أنه لم يبدأ في طلب العلم إلا في سن الثامنة عشرة، وأنه أخذ في التصنيف في حدود الستين والست مئة، وإلى أن مات كما

-  وحكي عنه أنه كان يكتب حتى تكلَّ يده فتعجز، فيضعُ القلمَ ثم ينشد:
لَئِنْ كانَ هذا الدَّمْعُ يَجْري صَبابَةً      على غير سُعْدَى فَهْوَ دَمْعٌ مُضَيَّعُ

   - وقال تلميذه ابن العطار: ’وانتفع الناس بسائر البلاد بتصانيفه، وأكبُّوا على تحصيل تآليفه، حتى رأيتُ مَنْ كان يشنؤها ـ يبغضها ـ في حياته مجتهداً في تحصيلها والانتفاعِ بها بعد موته، فرحمه الله، ورضي عنه‘.

   - وقال اليافعي: ’ولا شك أن الإمام محيي الدين النواوي مبارَكٌ له في عمره، ولقد بلغني بأنه حصلت له نظرةٌ جمالية من نظرات الحق سبحانه بعد موته، فظهرت بركتُها على كتبه، فحفظت بقبول العباد، والنفع في سائر البلاد‘.

وقد ألف النووي في علوم شتى: الفقه، والحديث، وشرح الحديث والمصطلح، واللغة، والتراجم، والتوحيد، وغير ذلك.

1 ـ شرح صحيح مسلم: شرحه النووي شرحاً متوسطاً مباركاً.
2 ـ روضة الطالبين: من الكتب الكبيرة المعتمدة في المذهب الشافعي، اختصره من كتاب الإمام الرافعي ’الشرح الكبير‘، وقد أثنى على كتابه ’الروضة‘ أئمةُ المذهب.
3 ـ المنهاج: وهو من أكثر كتب النووي تداوُلاً بين العلماء والطلبة،
4 ـ رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين:
5 ـ الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار:
6 ـ التبيان في آداب حملة القرآن:
7 ـ التحرير في ألفاظ التنبيه:
8 ـ العمدة في تصحيح التنبيه:
9 ـ بستان العارفين: كتاب رقائق، فيه من الخير وكثرة الفوائد الشيءُ الكثير

صلاحه رضي الله عنه :
·        عبادته :
-  يرى النووي ـ رحمه الله ـ : أن أعظم العبادة تَعَلُّمُ العلم الذي يُعرف به الحلالُ والحرام بإخلاص.

ومع ذلك كان له اشتغالٌ في العبادة، وكان كثيرَ التلاوة للقرآن، والذكر لله تعالى، معرضاً عن الدنيا، مقبلاً على الآخرة من حال ترعرعه، وكان كثير السهر في العبادة والتلاوة والتصنيف.

-    قال ابن كثير: كان الإمام النوويُّ يصومُ الدهرَ.

-   يقول الذهبي في وصفه: ’كان ... قليلَ الضَّحِكِ، عديمَ اللَّعِبِ، بل جِدٌّ صِرْفٌ، يقولُ الحقَّ وإن كانَ مرّاً، لا يخافُ في الله لومة لائم.

  - ويروي بعض تلامذته : كنت ليلة في أواخر الليل بجامع دمشق والشيخ واقف يصلي إلى سارية في ظلمه ، وهو  يردد قوله تعالى " وقفوهم إنه مسئولون " مرارا بحزن وخشوع ، حتى حصل عندي من ذلك شيء والله أعلم.

-  ومن طريف ما حكى عن نفسه ـ كما روى ذلك تلميذُه العلاء بن العطار ـ: أنه في أول طلب العلم قرأ أنَّ من موجِبات الغسل التقاءَ الختانين، فكان يظنُّ المَعْنى أن ذلك قرقرةٌ في البطن، فكان كلما قرقرَ بطنُه، ذهب فاغتسل، حتى أصابه من ذلك عَنَتٌ ومرضٌ، وبعدَ زمنٍ عَرَفَ المراد.

-  والنوويُّ لم يتزوجْ قَطُّ، ولعل السببَ في ذلك أنه زاهدٌ في مُتَع الدنيا كلِّها، بل ليس في عقله وقلبه ذرةٌ واحدة يمكنُ أن تعبأ بغير ما صرفَ حياته كلَّها إليه، فكان إذا غلبه النومُ، استندَ إلى الجدارِ قليلاً، وهو جالسٌ، ثم يستيقظُ مذعوراً كأن شيئاً ثميناً سُرق منه.

-        ورعه وزهده :

والزهد هو الرغبة عن الشيء لاستقلاله واستحقار والرغبة فيما هو خير منه ، وإنما ينشأ الزهد من اليقين بالآخرة ومعرفة قدر التفاوت بي الدنيا والآخرة

 وأما ورعه ـ رحمه الله ـ فورعُ من يشهدُ يوم الحساب بعين اليقين، وعظم الإيمان، ولذا وصفه الذهبيٌّ بأنه صاحبُ ورع ثخين، ويريد: أنه ورعٌ شديدٌ قَلَّ مَنْ يستطيعُ أن يقوم به.

فمن ورعه؛ أنه كان لا يأكل من فاكهة دمشق

- وسأله ابنُ العطار عن ذلك، فقال: إنها كثيرة الأوقاف والأملاك لمن هو تحتَ الحَجْرِ شرعاً، ولا يجوز التصرُّفُ في ذلك إلا على وجه الغبطة والمصلحة لليتيم والمَحْجور عليه، والناسُ لا يفعلونها إلاّ على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي؟!

·        ومن ورعه أيضاً: أنه كان لا يتناول من جهة ما مالاً أو طعاماً، ولا يقبل من أحد، حتى ما يُفرض له.

-  وحكى الذهبي: أنه ترك جميع الجهات الدنيوية، فلم يكن يتناول من جهة من الجهات درهماً فرداً. وأنه ما أخذ من الأشرفية فيما بلغني (جامكيَّة)، بل اشترى بها كتباً ووَقَفَها.

-  وقال ابن دقماق: إنه كان يجمع جامكيته عند الناظر، وكلما صار له حق سنة اشترى له به ملكاً ويوقفه على دار الحديث، أو كتباً

وكان خشنَ العيش، قانعاً بالقُوتِ، تاركاً للشهوات، صاحبَ عبادة وخوف، وكان لا يأكل في اليوم والليلة إلاّ أَكلة واحدة، وقوتُه منِ قِبَلِ والِده، ولا يشربُ إلا مرة في السَّحَر، ولا يشرب الماءَ المبرَّد‘.

·        وفي " البدر السافر " حكاية عن قاضي القضاة الجمال سليمان الزرعي: أنه كان يتردد إليه وهو شاب، قال: فجئت إليه في يوم عيد، فوجدته يأكل حريرة مدخّنة، فقال: سليمان... كًل فلم تطب لي، فقام أخوه وتوجه إلى السوق وأحضر شواء وحلواء، وقال له: كُلْ، فلم يأكل، فقال له: يا أخي، أهذا حرام؟ فقال: لا، ولكنه طعام الجبابرة.

- وقال الكمال الإدفوي في " البدر السافر " : إنه كان لا يجمع بين إدامين، ولا يأكل اللحم إلا عندما يتوجه لنوى، انتهى.

-  وقلع ثوبه ففلاه بعض الطلبة، وكان فيه قمل، فنهاه، وقال: دعه.

- وذكر لي العلاّمة رشيد الدين إسماعيل بن المعلم الحنفي قال: عذلته في عدم دخول الحمام، وتضييق عيشه في أكله ولباسه وجميع أحواله، وقلت له: أخشى عليك مرضاً يعطلك عن أشياء أفضل مما تقصده، قال: فقال لي: إن فلاناً صام وعبد الله تعالى حتى اختصر عظمه. قال: فعرفت إنه ليس له غرض في المقام في دارنا، ولا الالتفات لما نحن فيه.

والغريب فيه:  أنه مع هذا الزهد والورع والاعتقاد بالقليل كان يقرِّرُ جوازَ أكل لذيذ الأطعمة، وأنه لا ينافي الزهدَ، وذلك في تعليقه على حديث صحيح مسلم: ’كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل‘.

·                      كرامات النووي:

ويقول الذهبي: كان يؤثَرُ عنه كرامات وأحوال.

   - ويروي السخاوي عن جماعة أن أبا القاسم ابن عمير المزّي " وكان من الأخيار " إنه رأى فيما يرى النائم رايات كثيرة، قال وسمعت نوبة تضرب، فعجبت من ذلك فقلت: ما هذا؟ فقيل لي: الليلة قطِّب يحيى النووي رحمه الله، فاستيقظت من منامي ولم أكن أعرف الشيخ ولا سمعت به قبل ذلك، واتفق إني دخلت المدينة " يعني في حاجة " فذكرت ذلك الشخص، فقال: هو شيخ دار الحديث الأشرفية، وهو الآن جالس فيها بميعادها، فاستدللت عليها ودخلتها، فوجدته جالساً فيها وحوله جماعة، فوقع بصره علي، فنهض إلى جهتي وترك الجماعة، ومشى إلى طرف أبواب إيوانها ولم يتركني أكلمه، وقال: اكتم ما معك ولا تحدث به أحداً، ثم رجع إلى موضعه ولم يزد على ذلك، ولم أكن رأيته قبلها ولم أجتمع به بعدها.

  - وذكر شيخنا العارف، القدوة المسلك، وليّ الله أبو الحسن المقيم. بجامع بيت لهيا خارج دمشق، قال:
 كنت مريضاً بمرض يسمى النَّقرس، في رجلي، فعادني الشيخ، فلما جلس عندي شرع يتكلم في الصبر، قال: فكان كلما تكلم يذهب الألم قليلاً قليلاً، حتى زال الألم جميعه، فعرفت أن زواله ببركته.

 -  وقال التقي محمد بن الحسن اللخمي: إنه ظهرت له الكرامات الكثيرة: من سماع الهاتف، ومن انتفاع الباب المقفل بالأقفال ورده كما كان، وانشقاق الحائط في الليل وخروج شخص له منه حسن الصورة، وكلامه معه في مصالح الدارين، وإعلامه بموته وهو بدمشق.

ومن قوة نفسه ملازمته لحيّة عظيمة في بيته بالرواحية، ويراها كلَّ قليل تخرج إليه ويضع لها لباباً تأكله، حتى أن بعضهم رآها في غفلة وهو يطعمها اللباب فقال له: يا سيدي ما هذه؟ وخاف، فقال: هذه خلق، من خلق الله لا تضر ولا تنفع، أسألك بالله أن تكتم ما رأيت، ولا تحدث به أحداً.

** ومن مكاشفاته ما حكى الزين عمر بن الوردي في ترجمة الشمس ابن النقيب من تاريخه، إنه قال: دخلت وأنا صبي على النووي رحمه الله " يعني في أيام اشتغاله عليه " ، فقال لي: أهلاً بقاضي القضاة، قال: فنظرت فلم أجد عنده أحد غيري، فقال لي: اجلس يا مدرّس الشامية.
فما مرت الايام حتى صرت عندها قاضيا للقضاة وبعدها مدرسا بالشامية!!!

أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر:
يروي المحدِّث أبو العباس بن فروخ كان الشيخ قد صارت إليه ثلاث مراتب، كل مرتبة منها لو كانت لشخص شُدَّت إليه الرحال.
-        المرتبة الأولى: العلم.
-        والثانية: الزهد.
-        والثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    - وقد كان الإمام النووي ـ رحمه الله ـ يعرض نفسه للتلف في نصح الحكام ، وقد قال في رسالته التي وجهها لابن النجار " وأنا بحمد الله ـ تعالى ـ ممن يود القتل في طاعة الله ـ تعالى ـ …"

كان الإمام النووي ـ رحمه الله ـ عديمَ المثيل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان لا يبالي في أمره ونهيه لومة لائم، بل لا يبالي الإهانة والعذاب والموت، ولا يكبر عنده أحد عن نصيحته، حتى العلماءُ والملوك، والأمراءُ والجبابرة، وله مواقفُ وحوادثُ تذهب بالألباب في أمره ونهيه مع الظاهر بيبرس، ومع شيخه الفركاح التاج الفزاري، ومع عدة من علماء عصره الذين كانوا يزينون للسلطان بعض الفتاوى..

·        مع الظاهر بيبرس:
من أشهر مواقفه وأبرزها وقوفه في وجه الملك الظاهر بيبرس البندقداري التركي صاحب مصر والشام، المتوفَّى سنة (676ﻫ) قبل النووي بقليل...

   -  ولما خرج الملك الظاهر لقتال التتار بالشام، طلب فتاوى العلماء بأنه يجوز أخذ مالٍ من الرعيَّةِ ليستنصر به على قتال العدو، فكتب له فقهاء الشام بذلك، وقتل خلقاً من العلماء كثيراً بسبب إفتائهم له بعدم الجواز، فقال: هل بقي أحد؟ فقالوا: نعم، بقي الشيخ محيي الدين النووي. فطلبه، فقال: اكتب خطك مع الفقهاء، فامتنع، وقال: لا، فقال: ما سبب امتناعك؟ فقال: أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار، وليس لك مال، ثم مَنَّ الله عليك، وجعلك ملكاً، وسمعت أن عندك ألفَ مملوك، كلُّهم عنده حياصة من ذهب، وعندك مئتا جارية، لكلِّ جاريةٍ حُقٌّ من الحلي، فإذا أنفقتَ ذلك كلَّه، وبقيت مماليكُك بالبنود الصوف بدلاً عن حياصات الذهب، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، ولم يبق في بيت المال شيء من نقدٍ أو متاعٍ أو أرضٍ، أفتيتُك بأخذ المال من الرعية، وإنما يُستعان على الجهاد وغيره بالافتقار إلى الله تعالى، واتِّباع آثارِ نبيه صلى الله عليه وسلم.
     - فغضب السلطان من كلامه، وقال: اخرج من بلدي، فقال: السمعُ والطاعة، وخرج إلى نوى، فقيل للملك: ما سبب عدم قتلك له؟ فقال: كلما أردت قتله، رأيت على عاتقه سَبُعَيْنِ يريدان افتراسي، فأمتنع من ذلك.
فقال الفقهاء : إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا وممن يقتدى به ، فأعده إلى دمشق.
فرسم برجوعه ، فامتنع الشيخ
وقال : لا أدخلها والظاهر فيها ، فمات بعد شهر.

·        نصيحته ل ملك الأمراء: بدر الدين:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله يحيى النووي، سلام الله ورحمته وبركاته على المولى الحسن، ملك الأمراء: بدر الدين، أدام الله الكريم له الخيرات، وتولاه بالحسنات، وبلّغه من خيرات الآخرة والأولى كلَّ آماله، وبارك له في جميع أعماله، آمين.
 - أن أهل الشام هذه السنة في ضيق عيش وضعف حال، بسبب قلة الأمطار وغلاء الأسعار، وقلّة الغلات والنبات، وهلاك المواشي، وغير ذلك، وأنتم تعلمون أنه تجب الشفقة على الراعي والرعية، ونصيحته في مصلحته ومصلحتهم، فإن الدين النصيحة.

·        سفره لزيارة الشافعي:
   وقد سافر النووي إلى القاهرة لزيارة الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه، فلما عاين قُبَّتَهُ، وقفَ هناك، ولم يَخْطُ خطوةً بجهته، فقيل له: هلا تَقَدَّمْتَ؟ فقال: لو كان الإمام حَيّاً، ورأيتُ خيامَه، كان يلزمني الوقوفُ بمجرد رؤيتها، ثم رجع من غير أن يشعر به أحد من أهلها...
ولو أنصف النوويُّ نفسَه ـ إن أدرك الإمام ـ لكان ينبغي أن يكون من خُلَّصِ تلاميذه، وأفقههم، ولكنه الأدبُ والتواضعُ، وهكذا ينبغي احترامُ الكبارِ والعلماءِ، والأدبُ معهم أحياءً ومَيِّتين.
ـ وفاته وقبره:
توفي ـ رحمه الله ـ في الثلث الأخير من ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وست مئة.

 - ويقول التاج السبكي: ’لما مات النوويُّ بنوى، ارتجَّتْ دمشقُ وما حولها بالبكاء، وتأسَّفَ عليه المسلمون أسفاً شديداً، وأحيوا ليالي كثيرة لسنته‘.

وهاك قصة وَفاته كما رواها تلميذُه علاءُ الدين بنُ العطار، يقول: ’كنت جالساً بين يديه قبل انتقاله بشهرين أو نحوهما، وإذا بفقير قد دخلَ عليه، وقال للشيخ: فلانٌ من بلادِ صَرْخَد يسلم عليك، وأرسل معي هذا الإبريقَ لك، فَقَبِلَهُ الشيخ، وأمرني بوضعه في بيت حوائجه، فتعجبت منه لقبوله، فشعر بتعجبي فقال: أرسل إليَّ بعض الفقراء زَرْبولاً، وهذا إبريقٌ، فهذه آلَةُ السفر.

      - ثم بعد أيام يسيرةٍ كنت عندَه، فقال لي: قد أذِنَ لي في السفر، فقلت: كيف أذن لك؟ قال: أنا جالس هنا ـ يعني: بيته في المدرسة الرواحية، وقدامه طاقةٌ مشرفةٌ عليها مستقبلة القِبْلة ـ إذْ مرَّ عليَّ شخَصٌ في الهواء من هنا، ومرَّ كذا ـ يشير من غرب المدرسة إلى شرقها ـ، وقال: قم سافرْ لزيارةِ بيت المَقْدِسِ، وكنتُ حملت كلام الشيخ على سفر العادة، فإذا هو السفرُ الحقيقي.
ثم قال لي: قم حتى نودعَ أصحابَنا وأحبابنا، فخرجت معه إلى القبورِ التي دُفن فيها بعضُ مشايخه، فزارهم، وقرأ شيئاً، وبكى...

ثم سافر صبيحةَ ذلك اليوم، فسار إلى نوى، وزار القدس والخليل، ثم عاد إلى نوى، ومرض عقب زيارته لها في بيت والده، فبلغني مرضُه، فذهبت من دمشق لعيادته، ففرح ـ رحمه الله ـ بذلك، ثم قال لي: ارجعْ إلى أهلك، وودعتهُ، وقد أشرفَ على العافية يومَ السبت العشرين من رجب، ثم توفي ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من رجب.

فبينما أنا نائم تلك الليلة، إذا منادٍ ينادي على سُدَّةِ جامعِ دمشق في يوم الجمعة: الصلاةَ على الشيخ زكي الدين الموقع، فصاح الناس لذلك النداء، فاستيقظت فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. فلم يكن إلا ليلة الجمعة عشيةَ الخميس، إذ جاء الخبرُ بموته ـ رحمه الله ـ فنودي يوم الجمعة عقب الصلاة بموته، وصُلِّيَ عليه بجامع دمشق، فتأسف المسلمون عليه تأسفاً بليغاً، ولما وصل خبرُ وفاتِه إلى دمشقَ، ارْتَجَّتِ البلدُ، وزحفت دمشقُ إلى حوران، وصَلَّى عليه قاضي القضاة عزُّ الدين بنُ الصائغ، ودُفن ـ رحمه الله ـ في قريته نوى، وقبرُه فيها ظاهر يُزار.

وكان ـ رحمه الله ـ يريدُ أن يكون قبره على السُّنَّةِ، فيه علامةُ الفقرِ إلى الله، والزهدِ الذي عاشه في دنياه، ولكن الموتَ لم يُمْهِلْه حتى يوصيَ بذلك، وقومُه يريدون بناءَ قُبَّةٍ عليه، وأجمعوا أمرَهُمْ على ذلك، إذ جاء ـ رحمه الله ـ في النوم إلى أكبرِ امرأةٍ من قرابته ـ رُبَّما تكونُ عَمَّتَهُ ـ، وقال لها: قولي لأخي والجماعة لا يفعلون هذا الذي قد عَزَموا عليه من البنيان؛ فإنه كُلَّما بَنَوا شيئاً يُهْدَمُ عليهم، فانتبهتْ منزعجة، فقصَّتْ عليهم الرُّؤيا، وامتنعوا من البنيان.
وحَوَّطوا على قبره بحجارة تمنعُ الدوابَّ وغيرها.

·        ومما يدلُّ على صِدْقِ هذه الرؤيا أنه في أواخرِ القرنِ العاشرِ بنى الأميرُ الكبيرُ قانصوه الساعدي ـ رحمه الله ـ على قبر الشيخ قُبَّةً مِراراً، فوقعتْ مَن غيرِ هَدْم.

ولا تزال هذه العقيدةُ بينَ أهلِ نوى، وهي أنهم كُلَّما بنوا سَقْفاً على قبره،ىى يَرَونَ أنه لا بدَّ أن يُهدمَ، فهم يتخوَّفون دائماً أن يجعلوا لقبره سقفاً، وهو محوط مُسَوَّرٌ غيرُ مسقوفٍ إلى يومِنا هذا.
     -  وخرجتْ من داخلِ القبر شجرةٌ عظيمةٌ يبستْ مع الزمن، ولا تزال شاهدةً على صلاحِ النوويِّ وزهدِه.

·        رثاؤه وما قيل فيه:

   -  يقول الذهبي : ورثاه غير واحد يبلغون عشرون نفسا بأكثر من ستمائة بيت.

  -  فممن رثاء الصدر الرئيس الفاضل أبو العباس أحمد بن إبراهيم من مصعب ، وأول قصيدته
أكتم حزني والمدامع تبديه       لفقد امرئ كل البرية تبكيه

  -  وممن رثاه الأديب المحدث أبو الحسن على بن إبراهيم بن المظفر الكندي ، وأول مرثيته :
  لهفي عليه سيدا وحصور       سندا لأعلام الهدى وظهيرا
تعدادها واحد وثلاثون بيتا أولها :
رية محيي الدين قد عمت الورى         فلست ترى إلا حزينا مفكرا

  - وممن رثاه أحمد الضرير الواسطحي الملقب بالخلال وأولها :

لقد ذهب الحبر الجليل الموفق      وعدنا حيارى والدموع تدفق
خاتمة :
لقد تزوج شيخنا النووي كتب العلم النافع ، ورضى بسكنى الأربطة المعدة للطلاب وقنع بالكعك والتين ، حتى يوفر وقته وجهده لخدمة المسلمين ، وكان يلبس المرقع من الثياب ولا يبالي بزينة الدنيا طلبا لرضى الملك الوهاب ، فما نال من الدنيا من زينتها وشهواتها ، ولم تنل منه الدنيا شيئا ، فكانت حياته كلها لله ـ عز وجل ـ حتى فارق الدنيا وهو في طلب العلم والعبادة والزهادة والتصنيف والإفادة ، فرحمه الله رحمة واسعة وأدخلنا وإياه وجنة عالية ، قطوفها دانية.

وجاء في المنهل العذب الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي - للسخاوي:  ولكن يُحكى " كما بلغني " أنه أكل مرة نصف حبة من بعض الفواكه، لكون بعضهم علّق عتق عبد له على أكل الشيخ منها، وبلغه ذلك، ففعله لما ينشأ منه من فك رقبة مؤمنة، ولعله يتقيأه بعد استقراره، كما فعل الصدّيق رضي الله عنه، إنه لم يغتفر هذا القدر اليسير.


0 comentarios:

Publicar un comentario