miércoles, 11 de mayo de 2011

الصدق والصديقية

0 comentarios

إن الحق جل وعلى لا يأمر الا بخير ولا يوصي الا بمعروف  وأيما خلق حسن فانه جزء من ديننا نتقرب به الى الله زلفى ، و العقلاء في هذه الدنيا مجتمعون على ذلك فلا يرضى عاقل لنفسه السفاهة ولا الرذيلة.  والصدق من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال وأيما أحد اتصف بهذه الصفة الا رأيت الناس يتمنون منه القرب  ويودون منه المشاركة والتعاون على مشاق الحياة ، فلا شك أنهم يثقون به لأن حقيقته واضحة للعيان ولسانه ناطق بما في مكنون صدره ،  فلا يماري ولا يرائي ولا يداهن ولا يخاتل  أو ينافق... 
 وليس يصبر معك على الجادة الا من انطوى حاله على معدن نفيس خالص قوامه الصدق والاخلاص والأمانة  . أما الذين يطلون كلامهم ويزوقونه وينمقونه لغاية في أنفسهم يريدون تحقيقها فيلوون ألسنتهم بما ليس في قلوبهم ، ويأتون بالزور من القول ، والبهتان من الحديث ، فانهم يحفرون قبورهم بأيديهم ويشتتون علاقاتهم ويضيعون أنفسهم،  فسرعان ما يفضحهم  الله للعيان عاجلا أو آجلا .

      ان الصدق منجاة وظفر لصاحبه برضا مولاه ورضا الناس ، أما الكذب فهو مفسدة للقلب وضياع للايمان وصاحبه عار وشنار على الأمة جمعاء   وان رضي الناس عن صاحبه يوما فلأنهم لم يكتشفوا خداعه  فلن يلبث مليا حتى تتعرى حقيقته  ويفتضح  أمره ويتفشى بين الخلائق سره وعقابه يوم القيامة أليم شديد . 
لذلك حث المولى جل وعز في الكثير من الآيات على الصدق وفضيلته وأوصى باتباع  سبيل الصادقين وسلوك مسالكهم ، 
 قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " التوبة: 119،
وقال تعالى: { وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ }
وقال تعالى: { فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ }
وقد أثنى الله تعالى على أنبيائه ورسله وخلع عليهم حلة التفضيل بالصدق فقال تعالى : واذكر في الكتاب ابراهيم أنه كان صيدقا نبيئا
{واذكر في الكتاب موسى إنه مخلصا وكان رسول نبيئا }
{واذكر في الكتاب اسماعيل انه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيئا }
{واذكر في الكتاب ادريس انه كان صديقا نبيئا .. }
والله لا يصف أصفياءه وأولياءه الا بأعظم الصفات ولا ينسب اليهم الا أزكى الخصال وليس هناك مقام بعد النبوة  أعلى من مقام  الصديقية ، والمؤمن يصدق ويتحرى الصدق حتى تنفتح له بشارات مولاه  فيغدق الله عليه من نعيم أنسه ، ويقربه فيدخله في دائرة  المحبوبين، فليس يهمه بعض رضاء الله  عنه  شيء. ان المؤمن قد وهب  نفسه الى الله وسلم،  فاذا انحنى أمام وحي البلاغ الحق دون مجادلة أو ارتباك فهو صِدِّيقٌ .
أما الذين يميلون مع الريح حيث مالت ويتقنعون بأقنعة تلائم كل وقت ومصلحة فهؤلاء لا تبني عليهم عملا الا خرب كخراب قلوبهم الفاسدة .

ولقد قال الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام : « إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقا ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا »

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة  الصدق : « وهو منزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين ،والطريق الأقوم ، الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين » ... إلى أن يقول : « فهو روح الأعمال ، ومحك الأحوال ، والحامل على اقتحام الأهوال ، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال ، وهو أساس بناء الدين ،وعمود فسطاط اليقين ، ودرجته تالية لدرجة ( النبوة ) التي هي أرفع درجات العالمين » .
     ان الصدق مفتاح لكل خير مغلاق لكل شر ولا يزال الرجل يتحرى الصدق نية وقولا وعملا فتنفتح أمامه أبواب الهداية فيدخلها بابا بابا وكل باب يرشده الى غيره من أبواب الخير والصلاح حتى يدخل آخرها  على الله وهو عنه راض .
يروى عن وعن عبد الله بن عمرو أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما عمل الجنة قال: الصدق وإذا صدق العبد بر وإذا بر آمن وإذا آمن دخل الجنة.
 وقال أبو عبد الله الرملي: رأيت منصوراً الدينوري في المنام فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني وأعطاني ما لم أؤمل، فقلت له: أحسن ما توجه العبد به إلى الله ماذا؟ قال: الصدق وأقبح ما توجه به الكذب.

وان الانسان ما أن يفتح على نفسه الكذب حتى يستعذبه ويستطرب له ، فيكذب ممازحة ويكذب مداهنة ويكذب مصلحة ، وهكذا كل كلمة تجره الى ما بعدها حتى  يكذب اختيارا ويكذب بعدها تطوعا . فيحلف دون ان يُستحلف ويشهد دون ان يُستشهد ، ويقول كلمة الزور لا يلقي لها بالا قد تدمر علاقات وأواصر وتشتت أسرا وتخرب بيوتا والعياذ بالله ، لذلك ضمن النبي صلى الله عليه وسلم الجنة لمن ألزم لسانه بالصدق وضمان الجنة لا يكون الا ازاء أمر جلل  وخطير.


فالصادقون اختارهم الله لنفسه فهم  يعيشون في معيته ودائرة قدسه ويغمرهم حفظه   فليس يضيرهم بعد صدقهم مع الله  شيء وليسوا ينتظرون ثناء أحد ولا اطراءه، انما يبتغون رضى الله وحده  .
لذلك كان الصالحون يتحرون الصدق ولو بدى أن فيه مهلكتهم فلهم مع الله  أحوالا هو راعيها وأرزاقا هو مفرقها وحصنا منيعا  قد أحاط بهم من كل جانب ، ففي رعايته  وذمته يتحركون ، لا يبالون أيا كان في الله  مصابهم فهم دائما في فرح بقلوبهم التي أسكنت الصدق وغذيت بالاخلاص

يقول  أحمد بن خضروية: من أراد أن يكون الله تعالى معه فليلزم الصدق؛ فإن الله تعالى قال: " إن الله مع الصادقين "

لذلك كانوا يقولون :  الصدق: القول بالحق في مواطن الهلكة.
وقالوا :  الصدق هو قول الحق  في موطن ترى أن لا ينجيك فيه الا الكذب .
وفي هذا المعنى قال ذو النون المصري، رحمه الله: الصدق سيف الله، ما وُضع على شيء، إلا قطع.
وحكي عن أبي عمرو الزجاجي أنه قال: ماتت أمي.. فورثت منها داراً، فبعتها بخمسين ديناراً.. وخرجت إلى الحج، فلما بلغت باب استقبلني من واحد القناقنة وقال: ما معك؟ فقلت في نفسي: الصدق خير.. ثم قلت: خمسون ديناراً. فقال: ناولنيها. فناولته الصرة.. فعدَّها؛ فإذا هي خمسون ديناراً. فقال: خدها؛ فلقد أخذني صدقك. ثم نزل عن الدابة، وقال: أركبها. فقلت: لا أريد! فقال لابد. وألحَّ عليَّ. فركبتها. فقال: وأنا على أثرك. فلما كان العام المستقبل لحق بي، ولازمني حتى مات.

    ولقد جاهد الصادقون على هذا المنوال بعد ما غمر الله قلوبهم بمحبته فما وهنوا وما استكانوا لأنهم قدموا أنفسهم لله صدقا وحقا .
فقال الله تعالى فيهم  :{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .}
 يروى أن رجلٌ من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فآمن به و اتبعه ، ثم قال : " أهاجر معك " ، فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ، فلما كانت غزوة ،غنم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ،فقسم و قسم له ، وكان يرعى ظهورهم ، فلما جاء دفعوه إليه ،فقال : " ماهذا ؟ " ،قالوا : " قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم " فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال " ما هذا ؟ " ، قال : ( قسمته لك(، قال: ما على هذا اتبعتك ،ولكن اتبعتك على أن أُرمى إلى ها هنا – و أشار إلى موضع_ بسهم فأموت ، فأدخل الجنة " ،فقال صلى الله عليه وسلم) إن تصدق الله يَصْدُقك(    فلبثوا قليلاً ، ثم نهضوا في قتال العدو ، فأُتي به الى النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل وقد أصابه سهم حيث أشار،فقال النبي صلى الله عليه وسلم:  أهو هو ؟ قالوا : " نعم " ، قال( صَدَقَ الله فَصَدَقَهُ (
     فاذا علم الله من عبده الاقبال عليه فيا لهناءته وسعادته بربه فان الله اذا رضي عن العبد فقد ضحكت له الدنيا والاخرة ، وبُشِّرَ بالقرب بعد البعد والأنس بعد الوحشة والسعادة بعد الضنك والراحة بعد طول العناء -العناء من النفس والناس والدنيا - .
لذلك جاء في الحديث الصحيح : عن أبي ثابتٍ، وقيل: أبي سعيدٍ، وقيل: أبي الوليد، سهل بن حنيفٍ، وهو بدريٌ، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: من سأل الله، تعالى، الشهادة بصدقٍ بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه رواه مسلم.

فصدق الطلب صحح صدق الغاية  ومن صحت بدايته أشرقت نهياته وان لم تدرك المنازل  ظاهرا  في عالم الشهادة أدركها المؤمن بغيب التفضيل والاكرام والتنعيم وحسن الاقبال على الله .
وقيل: إذا طلبت الله بالصدق أعطاك مرآة تُبصر فيها كلَّ شيء من عجائب الدنيا والآخرة.
وجاء عن الشَّيْخ  الْإِمَام يُمْنُ بْنُ رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :   َاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ مَنْ صَدَقَ اللَّهَ أَوْصَلَهُ إلَى الْجَوَلَانِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ بِقَلْبِهِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَيْهِ بِطَرَفِ مَا قَدْ أَفَادَهُ السَّيِّدُ الْكَرِيمُ فَصَارَ قَلْبُهُ وِعَاءً لِخَيْرٍ لَا يَنْفَدُ ، وَعَجَائِبَ فِكْرٍ لَا تَنْقَضِي ، وَمَعَادِنَ جَوَاهِرَ لَا تَفْنَى ، وَبُحُورِ حِكْمَةٍ لَا تُنْزَحُ أَبَدًا ، وَمَعَ ذَلِكَ مَلَكُوا الْجَوَارِحَ ، وَالْأَبْدَانَ ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ فِي ابْنِ آدَمَ مُضْغَةً إنْ صَلُحَتْ صَلُحَ سَائِرُ جَسَدِهِ ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ جَسَدِهِ ، وَهِيَ الْقَلْبُ .
 وسئل فتح الموصلي عن الصدق، فأدخل يده في كير الحداد.. وأخرج الحديدة المحماة.. ووضعها على كفه، وقال: هذا هو الصدق.

ان بداية طريق الصدق الوقوف عند النفس ولم شعثها المتبعثر في طريق الضلالة وكبح جماحها الراكض وراء اللذة الفانية ، والتوقف قليلا للمحاسبة والمراجعة واليقين بأن الورى ومن في الدنيا لو اجتمعوا أن يقدموا لك نفعا لا يريده الله لك عاجزون  ، أو أرادوا ضرك والله يريد بك الخير  لا يقدرون ،  {ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره} ، واعلم أن الله تعالى جعل عليك حسيبا رقيبا يسجل عليك الكلمة واللحظة ويخطف منك في سجل أمين  اللمسة والهمسة ولا يترك صغيرة ولا كبيرة الا احصاها .
*  *  *  *
لقد فسد الزمان اليوم بفساد  الناس وصار الكذب أصل كل تعامل وسلوك وسماه الناس  بأسماء غير اسمائه وخلعوا  عليه حللا بهية و أوصافا سنية ، فالحاكم الغاشم سيد المقسطين  ، و السياسي  الأفاك دبلوماسي محنك ، والمحامي المزور عبقري فذ ،  و التاجر الغشاش  في بيعه وشرائه شاطر ذكي...!
وهكذا أصبح  الصادق الأمين غير مرغوب فيه،  والقائل للحق مشكوك في كلامه ، فهو اما منافق أو مداهن او يخفي وراءه مكرا وكيدا ،  و ما أن ترى أمة يستحلف بعضها بعضا عند كل كلمة وفعل،  فاعلم أن الكذب والبهتان قد عمر في أرضهم وضرب فيها بالأوتاد .
  ولقد لقي الصادقون في كل زمان ومكان فشى فيه الكذب  ابتلاءات  وشدائد واعترضت طريقهم المنغصات والمحن  ، فان الكذابين والدجالين لا يلبثوا ان يحرضوا عليهم  لتسفيه آرائهم واضعاف كلمتهم وتشتيت شملهم ،ولكنهم عبثا يحاولون فالله مع الصادقين أينما كانوا ومن كان الله معه فلا يخيب أبدا ولا يضيع .
قد يتزعزع المدعون وينحرف الضعفاء ويتراجع المشككون وقد يفسد الكثيرون بفساد الزمان ويتلونون بألوانه القاتمة ، وقد تحجب الشمسَ الغيومُ السوداء  لأمد ، ولكن الدنيا لا تلبث أن تضيء وسحائب العمى تنقشع فيسفر الصبح الجديد على قلوب صافية بالصدق ثابتة بأنوار الايمان  .
{فأما الزبد  فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .}

0 comentarios:

Publicar un comentario