إنه " رجل واحد في مقابل جميع الرجال
" ، الذي استطاع بنصر الله له وبصدق عزيمته وبإخلاصه في دعوته أن يقف
أمام
الجميع ليدحض الباطل ويُظهر الحق حتى يحق الله الحق بكلماته ولو كره الكافرون .
إن هذا الرجل العظيم استطاع أن يقف أمام العالم أجمع وأمام جهالات قريش وكفرها العنيد وأمام الأصنام وعبادة الكواكب وكل ما يعبد من دون الله وقف يدعو الله وحده لا شريك له ونبذ كل ما سواه ، إنه بحق لجدير بكل تبجيل واحترام ليس فقط من أتباعه بل من كل من يفهموا العبقرية وخصائصها .
إن الصفات التي تفردت في هذا الرسول العظيم لجديرة بأن يحصل على نوط الامتياز ويحظى بكل تقدير واحترام . إنه بحق الأعظم .
إن هذا الرجل العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بحق رجل لم تنجب البشرية مثله كيف لا وقد قال عنه الجبار " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " ...
- وقال تعالى " وَإِنَّكَ
لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ “.
كان بشرا ولكن ومن مثله :
كان بشراً وأمره
الله أن يقرر هذه الحقيقة، ويعلنها للناس لئلا يتخذوه إلها، أو يمنحوه من صفات
الألوهية, قال له ربه جلّ وعلا: { قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ}.
بشر مثلكم في
المقومات العامة للصفة البشرية، ولكن ليس في البشر - على التحقيق - من هو مثله في
عظمته، ولم يخلق الله من هذا الطراز من أبناء آدم جميعا إلا رجلا واحدا اسمه محمد
بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى أبيه إبراهيم، وعلى موسى وعيسى وجيمع الأنبياء.
عظمة محمد
مرجعها اصطفاء الله تعالى واختياره ومقامه عند الله تعالى
أي أن الله تعالى هيأه لهذا المقام منذ الأزل وأدبه
بأجمل الأدب وحفظه ليتم الحق و المطلب
- في قوله
تعالى : ورفعنا لك ذكرك.
- قال القاضي عياض في كتاب الشفا:
قال تعالى
(ورفعنا لك ذكرك) قال يحيى بن آدم : بالنبوة (أي رفع اللهُ للنبي ذكرَه بالنبوة) .
وقيل : إذا ذكرت ذكرت معي قول : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس
خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله .
- قال ابن عطاء: جعلت تمام الإيمان بذكري معك. وقال
أيضاً : جعلتك ذكراً من ذكرى ، فمن ذكرك ذكرني .
- وقال جعفر بن محمد الصادق: لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية.
وأشار.
·
ومن ذكره معه تعالى أن قرن طاعته بطاعته
واسمه باسمه ، فقال تعالى : أطيعوا الله والرسول . وآمنوا بالله ورسوله ، فجمع بينهما بواو العطف
المشركة . ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه السلام .
·
وأقسم الله تعالى بعمره
وحياته :
- قال
الله تعالى: لعمرك إنهم لفي
سكرتهم يعمهون [ سورة الحجر / 15 : الآية 72] .
اتفق أهل
التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه و سلم ، و
أصله ضم العين ، من العمر ، و لكنها فتحت لكثرة الاستعمال .
و
معناه : و بقائك يا محمد و قيل : و عيشك . و قيل : و حياتك . و هذه نهاية التعظيم
، و غاية البر و التشريف .
- قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما خلق الله تعالى ، و ما ذرأ ، و ما
برأ نفساً ـ أكرم عليه من محمد صلى الله عليه و سلم ، و ما سمعت الله تعالى أقسم
بحياة أحد غيره .
وقال جعفر بن محمد : من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه ،
وأقسم بحياته ، ونسخ به شرائع غيره ، وعرج به إلى المحل الأعلى ، وحفظه في المعراج
حتى ما زاغ البصر وما طغى ، وبعثه إلى الأحمر والأسود ، وأحل له ولأمته الغنائم
،وجعله شفيعاً مشفعاً،وسيد ولد آدم ، وقرن ذكره بذكره ، ورضاه برضاه ،وجعله أحد
ركني التوحيد.
·
خليل الرحمن تعالى :
-
جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من
قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : إني اتخذتك خليلاً ، فهو مكتوب في
التوراة : أنت حبيب الرحمن .
والخليل قال : ولا تخزني يوم يبعثون [ سورة الشعراء / 26 ، الآية : 87] .
والحبيب قيل له : يوم لا يخزي الله النبي ،
فابتدئ بالبشارة قبل السؤال .
والخليل قال في المحنة : حسبي الله [ سورة الزمر / 39 ، الآية : 38 ] .
والحبيب قيل له : يا أيها النبي حسبك الله [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 64 ] .
والخليل قال : اجعل لي لسان صدق في الآخرين [ سورة الشعراء / 26 ، الآية : ]
والحبيب قيل له : ورفعنا لك ذكرك ، أعطي بلا
سؤال .
والخليل قال : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . سورة إبراهيم / 14 ، الآية : 35 .
والحبيب قيل له : إنما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً
- ويقول للنبي صلى الله عليه
وسلم ( ألم نشرح لك صدرك ) ( ونيسرك لليسرى ) ( فإنما يسرناه بلسانك ) ( لعلك ترضى
) .
ويقول
على لسان موسى عليه السلام ( اشرح لي صدري ) ( يسّر لي أمري ) ( احلل عقدة من
لساني ) ( وعجلت إليك ربي لترضى ) .
-
ومن رواية ابن وهب ـ أنه عليه السلام قال : قال الله تعالى : سل يا محمد . فقلت : ما أسأل يا رب ؟
اتخذتَ إبراهيم خليلاً ، وكلمتَ موسى تكليماً ، واصطفيتَ نوحاً ، وأعطيتَ سليمان
ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، فقال الله تعالى : ما أعطيتك خير من ذلك ، أعطيتك
الكوثر ، وجعلت اسمك مع اسمي ، ينادى به في جوف السماء ، وجعلت الأرض طهوراً لك ،
ولأمتك ، وغفرت لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فأنت تمشي في الناس مغفوراً لك
شفاعتك ، ولم أصنع ذلك لأحد قبلك ، وجعلت قلوب أمتك مصاحفها ، وخبأت لك شفاعتك ،
ولم أخبأها لنبي غيرك .
-
وحكى أبو محمد مكي ، و أبو الليث السمرقندي و غيرهما ـ أن آدم عند معصيته
قال : اللهم بحق محمد
اغفر لي خطيئتي . و يروى : تقبل توبتي . فقال له الله : (من أين عرفت محمداً ) ؟
فقال : رأيت في كل موضع من الجنة مكتوباً : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ،
أو: محمد عبدي و رسولي ، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك . فتاب الله عليه ، و غفر له .
و هذا عند تأويل قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه .
* و في رواية الأجري قال : فقال آدم ، لما
خلقتني ر فعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب : لا إله إلا الله محمد رسول الله ،
فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدراً عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك ، فأوحى الله إليه : و
عزتي و جلالي ، إنه لآخر النبين من ذريتك و لولاه ما خلقتك .
- عن ابن عباس ، قال: جلس ناس من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ينتظرونه ، قال : فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون ،
فسمع حديثهم ، فقال بعضهم : عجباً ! إن الله اتخذ من خلقه خليلاً ، اتخذ إبراهيم
خليلاً . وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى ، كلمه الله تكليماً . وقال آخر :
فعيسى كلمه الله وروحه وقال آخر : وآدم اصطفاه الله .
فخرج عليهم فسلم ،
وقال : قد سمعت كلامكم و عجبكم ، أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً ، و هو كذلك ،
و موسى نجي الله وهو كذلك ، ، وعيسى روح
الله ، وهو كذلك ، وآدم اصطفاه الله ، وهو كذلك ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا
أول شافع وأول مشفع ولا فخر ، وأما من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها
ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر .
كان
الواعظ الذائع الصيت الأستاذ حسن علي ـ رحمه الله ـ يُصْدِر في (بتنه) قبل خمسين
عامًا مجلة «نور الإسلام»، وقد قال في جزء منها: إن صديقًا له من البراهمة قال
له: إني أرى رسول الإسلام أعظم رجال العالم وأكملهم؛ فقال له الأستاذ حسن علي: وما
هي منزلة المسيح عيسى ابن مريم عندك من رسول الإسلام ؟ فأجابه: إن المسيح ابن مريم
عندي في جانب محمد ﷺ كمِثل ولد صغير يتكلم بكلام عذب، ويتحدث حديثًا حلوًا عند
أعقل أهل زمانه وأكثرهم حَزْمًا.
ثم سأله حسن علي: و بماذا كان رسول الإسلام
عندك أكمل رجال العالم ؟ فأجاب: لأني أجد في رسول الإسلام خِلالًا مختلفة،
وأخلاقًا جمّة، وخصالًا كثيرة لم أرها اجتمعت في تاريخ العالم لإنسان واحد في آن
واحد؛
جوانب من عظمته صلى الله عليه وسلم :
لقد اجتمع في رسول الله من العظمة والعقل ما تفرق
في غيره :
- وقد قال وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتاباً ، فوجدت في
جميعها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلاً ، وأفضلهم رأياً. وفي رواية
أخرى : فوجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى
انقضائها من العقل في جنب عقله صلى الله عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين رمال
الدنيا . ويكفيك من ذلك رجاحة عقله عندما حكم بين القبائل قبل البعثة عندما أرادوا
إعادة بناء الكعبة فاختلفوا فيمن يرفع الحجر الأسود إلى مكانه فأشار عليهم أن
يضعوه على عباءته وأن يمسك كل منهم بطرف منها ويرفعوه معاً وبذلك نالوا جميعهم شرف
رفع الحجر الأسود .
- كان
الواعظ الذائع الصيت الأستاذ حسن علي
ـ
رحمه الله ـ يُصْدِر في (بتنه) قبل خمسين عامًا مجلة «نور الإسلام»،
وقد قال في جزء منها: إن
صديقًا له من البراهمة قال له: إني
أرى رسول الإسلام أعظم رجال العالم وأكملهم؛ فقال له الأستاذ حسن علي: وما هي منزلة المسيح عيسى ابن مريم عندك من رسول الإسلام ؟
فأجابه: إن المسيح ابن مريم
عندي في جانب محمد ﷺ كمِثل
ولد صغير يتكلم بكلام عذب، ويتحدث حديثًا حلوًا عند أعقل أهل زمانه وأكثرهم حَزْمًا.
لقد كانت سيرته وحياته جامعة لتجارب
الأنبياء من قبله :
أليس الرسول المكيّ الذي خرج من بلده
مهاجرًا إلى يثرب يُشبه الرسولَ الإسرائيليّ الذي خرج من مصر يُريد مَدينَ؟
أليس الذي انزوَى في غار حِراء يعبد ربه؛
كالذي قصد جبل سيناء ليُناجِي ربَّه؟ إنّ هذا يُشبه ذلك، مع فارق بينهما؛ وهو
أن عينَي محمد كانتا مفتوحَتَين، وعينيّ موسَى كانتا مُغمَضَتَين، وأن رسول
الإسلام كان ينظر في داخله، ورسول بني إسرائيل كان ينظر إلى خارجه.
إن عيسى ـ عليه السلام ـ في ذهابه إلَى
جبل الزيتون ليلقي عِظته؛ يُشابه محمدًا ﷺ وقد ارتقى جبل الصَّفا لينادي معاشر
قريش. والذي قاتل مشركي بلاد العرب في بدر وحُنين ويوم الأحزاب وتَبوك؛ يُشبه موسى
الَّذِي قاتل المؤابيين والعمونيين والآموريين.
إن محمدًا نبي الله دعا بالخير لمن أراد قتله
من المشركين يوم أُحُد، وإن عـيسـى ـ عليه السلام ـ لم يَدْعُ علَى أحد وما زال
يبغي الخير لأعدائه. أليس هَدي محمد رسول الله ﷺ يُشابه من هذِهِ الناحية هَدي عيسى رسول
الله ﷺ ؟
وإن محمدًا رسول الله ﷺ حين تراه في فِناء المسجد
يقضي بين الناس بالحق ويحكم بالعدل، أو في ساحات الحرب يقاتل الكفار والمشركين؛
فكأنك ترى موسى رسول الله وهو يجاهد أعداءه ويقاتل الَّذِين يعبدون الأوثان.
ولو رأيتَ نبي الإسلام وهو يذكر الله دائمًا
ويحمده ويسبِّحه في البُكور والآصال وفي كل حال ـ فإذا بدأ بالأكل بدأه باسم الله، وإذا فرغ منه حمد الله، وإذا جلس مع أحد
كان التذكير بالله من عمله في ذلك المجلس، وإذا نام نام وهو يذكر ربه ويستعرض
آلاءه عليه ـ ؛ فكأنك برؤية نبي الإسلام قد رأيتَ النبي صاحب الزَّبُور في ترتيله
محامد الله ونعمه.
وكأنك ترى سليمان في جنوده وعليه جلال المَلِك
وأُبَّهة السلطان؛ حينما ترى محمدًا بين أصحابه وقد فتح مكة ودخلها تحت رايات المجاهدين، بأيديهم
السيوف مصلَّتة لإقامة الحق، والعوالي السُّمر مشرعة لتقويض دعائم الباطل.
أما إذا رأيته وهو
محصور مع ذَويه في شِعْب أبي طالب، وقد مُنِعَ دخول الطعام والشراب إليه من الخارج؛
فكأنك ترى يوسف الصِّدّيق وهو في سِجْن مِصر يعاني شدائد الظالمين ويكابدها.
كان عظيما وعبقريا لأنه استطاع تغيير العالم رغم قلة الوسائل
والإمكانيات :
-
جاء في دائرة المعارف البريطانية . " لقد كان محمد الأكثر
توفيقاً من بين جميع الشخصيات الدينية “.
- وقال
عنه أحد المفكرين الغربيين أنه لو أعطى لمحمد زمام الأمور في هذا
العالم المليء بالملابسات والمشكلات لقاد البشرية إلى بر الأمان .
والعظمة إما أن
تكون بالطباع والأخلاق والمزايا والصفات الشخصية، وإما أن تكون بالأعمال الجليلة
التي عملها العظيم . وإما أن تكون بالآثار التي أبقاها في تاريخ أمته وفي تاريخ
العالم .
ولكل عظيم جانب من
هذه المقاييس تقاس بها عظمته، أما عظمة محمد فتقاس بها جميعا لأنه جمع أسباب
العظمة، فكان عظيم المزايا، عظيم الأعمال، عظيم الآثار.
لم يكتب لأي شخصية في التاريخ النجاح المبهر مثل ما كتب لمحمد عليه
الصلاة والسلام :
وهل خَلَّفَ لنا
الإسكندر المقدوني وقيصر روما الأعظم مثالًا من أعمالهما يَصْلُح المجتمع إذا
اقتدَى به وسارَ علَى أثرهما فيه ؟ وهل نالت حظًّا من البقاء والدوام أية سُنَّة
سَنَّها عظماء المفكرين للمجتمع البشري ـ من أمثال سولون وغيره من واضعي الشرائع
الَّتِي يعتبرونها عادلة قيمة، مع أنهم أبدعوا فيها ما شاءت لهم أفكارهم الثاقبة
وأنظارهم البعيدة وقرائحهم المتوقدة ـ ؟! ولو سأل سائل عن تلك الشرائع القيمة
والقوانين العادلة كم استمرت؛ لَـمَا استطاع أحد من أتباعهم وأنصارهم إلَّا أن
يعترف بأن بقاءها كان قصير الأمد وأن نُقَّادها أكثروا من نَقْدها، بل شك حتى
أتباعهم وأنصارهم في نُصْح أولئك المفكرين ونَقاء سرائرهم وصفاء قلوبهم وفي
إخلاصهم للإنسانية وللبشر جميعًا؛ لأنهم لَم يجدوا فيها الحياد الصادق والنصفة
المحضة والعدل الصريح وبراءة الذمة من المحاباة، ومن جَرَّاء ذلك؛ نشأ بعدهم قوم
آخرون نبذ حكامهم تلك الشرائع ومحوها كما يمحوا المُصَحِّحون أخطاء الحروف في
الكتابة، ثم شرع هؤلاء الآخرون في سَنِّ قوانين غيرها تلائم مصالحهم وتوافق مطامعهم؛
فجاءت القوانين الجديدة كأختها الَّتِي سبقتها غير مراعى فيها حقوق بني آدم كلهم
ومصالح الأمم ـ بلا استثناء ـ !
وفي أيامنا هذِهِ؛ نرى مجالس التشريع في
البلاد المتمدينة لا تفتأ تنسخ قوانين كان معمولًا بها، وتُسِنّ بدلًا منها قوانين
أخرى جديدة، حتى صارت لكل يوم شريعة تُشْرَع في مكان شريعة تُنسَخ، وقانون يُسَنّ
بدلًا من قانون يُلْغَى ! كلّ هذا طمعًا في بقاء دولة وتثبيت أركانها واستيلاء
رجالها علَى مناصبها، ورغبة منهم في زُخْرف الدنيا وزينها ونعيمها، لا تحفزهم إلَى
ذلك مصالح الناس ولا منافع الأمة كلها !
ولولا الأنبياء لتهارج الناس كالبهائم،
ولتهارشوا كالسباع الضواري ! فحيثما رأيتم شيئًا من الصَّلاح، وقليلًا من الخير أو
كثيرًا منه؛ فهو من تعاليمهم. وكلّ دعوة للحق في مكان ما من الأرض؛ فإنما هي صدى
لرسالات الله. وحتى الهمج في مجاهل إفريقية ـ فضلًا عن الأمم الغربية المتدنية ـ ،
كل أولئك اسْتَقَوا من منهل النُبُوّات الصافي، واستضاءوا بأنوار الله الَّتِي بعث
بها أنبياءه، ولا يزالون يستنيرون بهم في كلّ ما يُسَمَّى حقًّا، وكلّ ما تدل عليه
عناوين الخير.
كان عظيما لأنه صنع أمة من لا شيء وأخرجها من غيابات التخلف إلى
قيادة العالم وقهرة لأعتى الإمبراطوريات :
تأمَّلوا؛ كيف انقلب العرب الَّذِين كانوا في معزل عن العمران يعبدون
الأوثان ويعكفون علَى الأصنام، وكانوا في جاهلية ضاربين فيها بجرانهم؟ فما بالهم انقلبت
أحوالهم وتغيّرت شؤونهم؟! إن أرضهم لا تزال هي الأرض، وسماؤهم كما كانت، وبلادهم لم
تتغير !
كيف انجلى عنهم ظلام الجهل،
وكيف نَفَخَ فيهم ذلك الأُميّ روح الدِّين الحق؛ فأصبح جاهلهم عالمًا ومحاربهم مسالمًا،
وماذا علَّمهم حتى انقلب الفاسد صالِـحًا والمفسد مصلحًا، والذي لم يكن يحسن شيئًا
لم يلبث أن صار يدير المُلْك ويصرف شؤون الحكومة ويَسُوس أمور الرَّعايا ! وكيف نبغ
منهم ذوو العقول الراجحة والآراء السديدة والأفكار الثاقبة ؟
إن الرسول الأُميّ الأعزل الَّذِي لم يحمل في شبابه سلاحًا ولم يملك
من قبل بلادًا؛ كيف أقام للأمة العربية ـ الَّتِي لم تكن الأمم تقيم لها في كفة السياسة
العالمية وزنًا ـ دولة ذات عظمة وجلال، واكتشف في نفوس رجالها كنزًا من القوة لا ينفذ؟
وكيف جعل هذا الأُمي من هذِهِ الأمة ـ الَّتِي لم تكن تعرف الله ولا تعلم توحيد ربويته
ـ عبادًا ناسكين، يُحيون الليل بذِكر الله، ويبلِّغون رسالاته في النهار؟!
Ø
أسر العرب
وأذاب جليد القساوة من قلوبهم
Ø
وغيرهم من
أمة متوحشة إلى أمة عامرة بالرحمة فياضة بالإنسانية.
ثم
كيف صارو من أعتى المدافعين عن الدين وحماه :
ثم ألم يأتك نبأ الَّذِين
حُصِرُوا في شِعْب أبي طالب جياعًا؛ كيف كانوا يبيتون الليالي ويقضون الأيام وهم يقتاتون
بأوراق الطلح، بعد أن فني زادهم، وصفر وطابهم، وأعوزهم القُوت. إن سعد بن أبى وقاص
مسَّه ألم الجوع في ليلة شديدة من تلك الليالي؛ فخرج من شِعْب أبي طالب يطلب شيئًا
يتبلَّغ به ليذهب بعض ما به من ألم السغب؛ فلم يجد إلَّا قطعة جافة من إهاب؛ فغسلها
وشواها وأكلها بالماء!
- وعتبة بن غزوان أيضًا كان من الَّذِين امتُحِنُوا
في شِعْب أبي طالب بأيدي المشركين، وهو يقول: إني وأصحابي السبعة قد دَميت أفواهنا
من أكل هذِهِ الأوراق والأشياء الَّتِي نقتات بها.
- وخبّاب لما أسلم وعلم بإسلامه المشركون؛ ألقوه
علَى الجمر الملتَهب وأمسكوه عليه؛ حتى انطفأ الجمر بالصديد والقيح الَّذِي سال من
ظهر خبّاب!
- وبلال كان يذهب به
سيِّده إلَى أرض ذات حجارة تلهبها أشعة الشمس في وسط الهاجرة؛ فيلقيه عليها، ثم يضع
علَى صدره جندلًا ثقيلًا حارًّا، وربما شَدَّ عنقه بالحبل؛ فيجره جرًّا أليمًا في سِكَك
مكة !
- وكذلك فُعِلَ بأبي فكيهة؛ رُبِطَت رجله بالحبل وسُحِب
علَى الأرض وخُنِق، وقد وُضِع مرة علَى صدره حجر ثقيل؛ حتى ضاقت أنفاسه واندلع لسانه !
- وكذلك عمار أُوذِي
إيذاء شديدًا؛ فكان يجندل علَى الرمضاء، ويُضْرَب ضربًا مُبرِّحا. بل إن الزبير كان
عمه يلفه بالحصير ويدخن عليه من أسفل.
- وسعيد بن زيد كان أهله يضربونه فيصبر. وعثمان كان
عمه يضربه.
فقابل هؤلاء كلهم البلايا والمِحَن ـ وذاقوا العذاب
الشديد ـ برباطة جأش وثبات قلب وقوة إيمان؛ فأشربت دماؤهم من هذا الرحيق الإلهي الَّذِي
تناولوه من كأس الإسلام؛ فلا يتحولون عنه مدى الحياة.
فهل يقاس محمد صلى الله عليه وسلم بباقي العظماء عبر التاريخ؟ :
- ولذلك
ليس غريب أن يضعه مايكل هارت في كتابه العظماء مائة في مقدمتهم فقال مايكل عن
سبب اختياره لمحمد وكونه الأعظم فقال : ( إن اختياري لمحمد ليقود قائمة أكثر أشخاص
العالم تأثيراً في البشرية قد يدهش بعض القراء وقد يعترض عليه البعض .. ولكنه كان
( أي محمد) الرجل الوحيد في التاريخ الذي حقق نجاحاً بارزاً في كل من المستوى
الديني والدنيوي ) .
وإن من الظلم لمحمد، وإن من الظلم للحقيقة، أن
نقيسه بواحد من هؤلاء الآلاف من العظماء الذين لمعت أسماؤهم في دياجي التاريخ، من
يوم وجد التاريخ، فإن من العظماء من كان عظيم العقل ولكنه فقير في العاطفة، وفي
البيان، ومن كان بليغ القول وثاب الخيال، ولكنه عادي الفكر، ومن برع في الإدارة،
أو القيادة، ولكن سيرته وأخلاقه كانت أخلاق السوقة الفجار.- ومحمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي جمع
العظمة من أطرافها.
لقد مضى في سالف
الأيام كثير من العظماء دعوا الناس إلَى أن يقتدوا بأخلاقهم وأعمالهم، منهم ملوك
جبابرة: عاشوا في قصورهم الشامخة بين ندمائهم وجلسائهم، وملأوا القلوب مهابة
وجلالة، ومنهم قادة جيوش: عاشوا بين ضباطهم وجنودهم يُرْهِبون الناس ويخيفونهم
بشدة بأسهم وضخامة أجسامهم ورواء هندامهم، ومنهم حكماء وفلاسفة: كانوا إذا نطقوا
أَبَانُوا، وإذا خطبوا أبدعوا ونثروا من دُرَر الحكمة ما شاءت بلاغتهم وطلاقة
ألسنتهم؛ فملكوا القلوب وبهروا النفوس. وترى بجانب هؤلاء طائفة الشعراء؛ ممن إذا
أنشدوا أطربوا، وإذا رتلت أناشيدهم غلبوا السامعين علَى أهوائهم ولعبوا بالقلوب
كيف شاؤوا. وقد خلا كثير من الفاتحين الَّذِين دوخوا البلاد واستولوا علَى
المماليك، كما مرَّ في مواكب التاريخ كثير من المثرين والأغنياء، الَّذِين كانت
أقدامهم تطأ البُسُط الناعمة والزرابي الوثيرة، ويمشون علَى الحرير الفاخر
والإستبرق الزاهر، اكتنزوا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، واستَرْعوا أنظار
بني آدم بما كانوا فيه من ترف وعظمة وسعة. وقد كان هنيبعل القرطاجني والإسكندر
المقدوني وقيصر الروم ودارا الفارسي ونابليون الفرنسي يملأ كل منهم عيون بني آدم
بعظمته وأحداث حياته ومختلف أعماله، وكذلك نَجِدُ سقراط وأفلاطون وديوجنس وغيرهم
من حكماء اليونان وغير اليونان ـ مثل: سبنسر وأضرابه ـ ؛ تجتذب سيرتهم النفوس
وتروق القلوب، وإن اختلفت مظاهر عظمتهم عن مظاهر عظمة الآخرين ممن ذَكَرْتُ
أسماءهم قبلهم.
فهل ترى في حياة
هؤلاء وأولئك ما يضمن فلاح بني آدم ؟ ومَن منهم تُؤَدِّي سيرته ودعوته إلَى صلاح
الإنسانية وسعادتها ؟
إن في هؤلاء وأولئك
لقادة فتحوا البلاد، ودوّخوا المماليك، واقتحموا أقصى الأرض وأدناها، وذلَّلوا ما
اعترض سبيلهم من صِعاب، وسَخَّرُوا الملوك بظبي سيوفهم. ولكن؛ مَن منهم ترك لمن
أتى بعده أسوة يأتسي بها في تعميم الخير ؟ ومَن منهم إذا اهتدى الناس بهديه يَنجون
من المهالك، ويسلكون سبيل السعادة والهناء ؟ ومَن مِن هؤلاء استعملوا سيوفهم
البواتر في قطع حبائل العقائد الفاسدة، وتخليص العقول من الأوهام الواهية والأفكار
الباطلة ؟ ومَن منهم وقف حياته علَى حل مُعضلات بني آدم، وكانَ حريصًا علَى عقد
أواصر الإخاء بينهم علَى الحق والتواصي في الخير ؟ وهل يوجد في حياة مَن ذكرنا مِن
هؤلاء العظماء ما يستعين به بنو الإنسان علَى تخفيف ما يُعانونه من الغمرات في
حياتهم الاجتماعية ؟ أم في أخلاقهم وأعمالهم ما ييسر للإنسانية الشفاء من أمراضها
الخلقية وأوصابها النفسية ؟ أم في دعوتهم ما يجلو صدأ القلوب ورينها، أو يرتق
فَتْقًا في الحياة الاجتماعية ؟
لا شَكَّ أن
الشعراء نالوا إعجاب الناس بأناشيدهم الرنانة، وملكوا النفوس وتصرفوا فيها بشعرهم
البليغ وقصائدهم الغرّ، ولكن؛ هل نفعوا الإنسانية وهم يَهيمون في أودية الخيال ؟
كلا؛ ولذلك لم يكن لهم في جمهورية أفلاطون نصيب ولا منصب. والشعراء ـ مِن:
هوميروس، إلَى امرئ القيس فمن بعده من شعراء الأمم ـ لَم يكن منهم إلَّا إثارة
كامن العواطف وتنبيه النائم من الأفكار، أو إحداث لذة أو ألم في النفوس، ولا
يُنتظر منهم أن يحلوا معضلات الحياة الإنسانية، وعويصات مشاكلها؛ وسبب ذلك: أنهم
في سيرتهم وأعمالهم لا يُقَدِّمون للناس المُثُل الَّتِي تُحتذى، والأسوة الَّتِي
يُقتَدى بهم فيها. ولقد وصفهم القرآن الكريم الحكيم أصدق وصف عندما ذَكَـرَ سيرتهم
بقــوله: ﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ {224} أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ
فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ {225} وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ
{226} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [الشعراء: 224ـ227].
وبهذا سجل القرآن
الحكيم علَى الشعراء أنهم لا يُؤَثِّرون بشعرهم اللطيف الحلو علَى المجتمع البشري؛
لأنهم يهيمون في أودية الأفكار والعواطف بلا إيمان ولا عمل صالح، ولـو اجتمعت لهم
هاتان الـخَصلتان ـ الإيـمان والعـمـل الصالح ـ ؛ لكان لشِعْرِهم أثر بارز في
المجتمع البشري. وعلى كُلٍّ؛ فإنهم ليسوا من الإصلاح في شيء، ولا الإصلاح من
شأنهم؛ ولذلك لا يقدرون علَى القيام بمهمة إصلاح العالم وقيادة الناس إلَى الرشاد
الكامل والفلاح الشامل، ويشهد علَى صدق هذِهِ الحقيقة تاريخ الأمم في غابرها
وحاضرها.
وكذلك نرى الفلاسفة
والحكماء؛ بهروا عقول الناس بفلسفتهم، وحاولوا تغيير تيار الحياة البشرية؛ فعرضوا
علَى الناس من طريف الأفكار ومُستحدث النظريات ما حيَّر العقول وأدهش النفوس،
لكنهم لم يُقَدِّموا للناس من سيرتهم أسوة يُؤتَسى بها، ولا أناروا ظلمات الحياة
بقَبس من أعمالهم تتضح به مشاكل الإنسانية فتتمكن من حل معضلاتها. وهذا أرسطو؛ قد
وضع في فلسفة الأخلاق قوانين أَسَّسَ بنيانها ووَطَّد أركانها، ولا تزال الجامعات
وأساتذتها عاكفين علَى دراستها؛ يلقون المحاضرات علَى طلبتهم في فلسفته، ونسمعهم
يُثنون علَى ثقوب فكره وبُعد نظره وحَصافة رأيه ورَجاحة عقله، ولكنَّنا ـ والحق
يُقال ـ ؛ لم نجد رجلًا اهتدى بدراسة فلسفة أرسطو أو وصل بها إلَى السعادة
المنشودة !
وكذلك نرى في
الكليات أفاضل من العلماء وفحول الأساتذة والمدرسين يُعْجِب الطلبةَ فصيحُ كلامهم،
وبراعةُ بيانهم، وبليغُ حِوارهم، وعَذْبُ حديثهم، وهم يُؤَثِّرون فيهم بذلاقة
ألسنتهم، واتساق أفكارهم، وترتيب معانيهم. لكنهم؛ لا تعدوا محاضراتهم جدران
كلياتهم وقاعات محاضراتهم، وإذا خرجوا منها أصبحوا كعامة الناس لا يمتازون عليهم
بعمل تتخذه الإنسانية مثالًا يُـحتذى، ولا بخُلُقٍ يختلفون به عن غيرهم هَدْيًا
وسَمْتًا.
لقد رأينا علَى
مسرح العالَم كثيرًا من الملوك الجبابرة الَّذِين حكموا العالَم، واستولوا علَى
المماليك، واستعبدوا الأمم، وكم من أرض عمروها، ومدينة دمروها، وكم وضعوا شعوبًا
ورفعوا آخرين، وكم سلبوا ومنحوا، وضروا ونفعوا؛ فكانوا في سيرتهم كما قال الله ـ
عَزَّ وجَلَّ ـ علَى لِسان مَلِكَة سَبـأ: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا
قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ [النمل:34].
نعم؛ إن السيوف
البواتر في أيدي بعض الملوك قد قذفت الرعب في قلوب المجرمين؛ فكَفُّوا عن اقتراف
الجرائم علانية وفي وضح النهار، مستترين وراء مكامن الرَّيب أو قابعين في بيوتهم، لكنَّ
سيوف الملوك عجزت عن أن تستل الرذائل من قلوب أهلها، وأن تحسم مادة الشر في
نفوسهم، وأن تطهر صدورهم من فساد السرائر، ذلك الفساد الَّذِي يحمل أهله علَى
ارتكاب المعاصي واقتراف السيئات. وأقصى ما يترتب علَى رهبة المجرمين والمُرجفين من
سيف الملوك المُسَلَّط عليهم أن يَسود الأمن والسلام سبل البلاد وأسواق المدن
وشوارعها وحاراتها. أما إصلاح القلوب وتهذيب النفوس فمما يخرج عن سلطان السيف
وتعجز عنه إرادة الملوك ! بل الحق ـ والحق أَحَقُّ أن يُقال ـ أنَّ رأس كل شرّ
إنما نَجَمَ من قصور بعض الملوك ! وأنَّ كل فساد نبت نابته في فناء حصونهم، بل في
قصورهم نبعت عيون الفواحش والجرائم، ومن حصونهم انفجرت ينابيع الظلم والعدوان،
وعلى أيديهم تفاقم كل شرّ، ومن أخلاقهم سَرَت العدوى إلَى أخلاق الناس ! ولِفَساد
قلوبهم وسوء أعمالهم اتسع الـخَرْق علَى الراقع حتى أعيا الأطباء داء المجتمع
البشري !
كان عظيما بصدقه وثباته على مبادئه
إن
الرسول ﷺ لم يقض حياته كلها بين أحبابه وأصحابه؛ بل قضى أربعين سنة من عمره في مكة
قبل أن يُبعث؛ فكان بين أهلها ـ مشركي قريش ـ ، وكان يتعاطى فيهم التجارة،
ويعاملهم في أمور الحياة ليل نهار ـ وهي الحياة اليومية وما تنطوي عليه من أخذ
وعطاء ـ ، ومن شأنها أن تكشف عن أخلاق المرء؛ فيتبين للناس فسادها وصلاحها، وهي
عيشة طويل طريقها، كثيرة منعطفاتها، وعرة مسالكها، تعترضها وهدات مما قد يصدر
عن المرء من خيانة، وإخفار عهد، وأكل مال بالباطل، وعقبات من الخديعة والخيانة،
وتطفيف الكيل، وبَخس الحقوق، وإخلاف الوعد. وإن الرسول ﷺ اجتاز هذِهِ السبيل
الشائكة الوعرة، وخلص منها سالمًا نقيًّا، لم يصبه شيء مما يصيب عامة الناس؛ حتى
لقد دَعَوه (الأميـن).
إن أول ما يتهم به من جاء برسالة أو دعوة أو مبدء هو الكذب والتخريف
وهل قيل ذلك لمحمد : ؟!![1]
إن قريشًا أنفقوا أموالهم وبذلوا نفوسهم في
عداوة الرسول، وضحوا بفلذات أكبادهم في قتاله؛ حتى قُتِل منهم وجُرِح كثيرون،
لكنهم لم يستطيعوا أن يدنِّسوا ذيله الطاهر، ولا أن يَصِمُوه بشيء في عظيم أخلاقه.
وكانت أحوال الرسول وشئونه وهديه ظاهرة لجميع الناس معلومة لهم، استوى في ذلك
أحبابه وأعداؤه، ولم يخف عليهم شيء من أمره.
- كان عظماء قريش مجتمعين ذات يوم في ناديهم؛
فجرى ذكر الرسول ﷺ، وفهيم النضر بن الحارث ـ وكان رجلًا داهية محنّـكًا وعالمًا
بالأخبار ـ ؛ فقال لهم: يا معشر قريش؛ لقد أعياكم أمر محمد، وعجزتم عن أن تدبروا
فيه رأيًا لما أصابكم به! إن محمدًا قد نشأ فيكم حتى بلغ مبلغ الرجال، وكان أحب
الناس إليكم وأصدقهم فيكم واتخذتموه أمينًا، فلما وخطه الشيب، وعرض عليكم هذا
الأمر؛ قُلتم: ساحر وكاهن وشاعر ومجنون! تالله لقد سمعتُ كلامه؛ فليس فيه شيء مما
ذكرتُم!
- ولما
تلقَّى الرسول أمر ربه بأن يدعو ذوي قُرباه إلَى الإسلام، وينذر عشيرته الأقربين صعد الجبل ونادى: يا معشر قريش. فلما
اجتمعوا قال: هل كنتم مصدقيّ إن قلتُ إنّ جيشًا قد بلغ سفح هذا الجبل؟ قالوا: ما
جربنا عليك كذبًا قطّ. [صحيح البخاري: سورة تبَّت].
لذلك لم يكن في حياة النبي شيء غامض أو يدعو إلى الريبة :
ما من أحد من هؤلاء، إلا كانت له نواح يحرص
على سترها وكتمان أمرها، ويخشى أن يطلع الناس على خبرها. نواح تتصل بشهوته ، أو
ترتبط بأسرته، أو تدل على ضعفه وشذوذه، ومحمد هو وحده الذي كشف حياته للناس جميعا،
فكانت كتابا مفتوحا، ليس فيه صفحة مطبقة، ولا سطر مطموس، يقرأ فيه من شاء ما شاء.
وهو وحده
الذي أذن لأصحابه أن يذيعوا عنه كل ما يكون منه، ويبلغوه، فرووا كل ما رأوا من
أحواله في ساعات الصفاء، وفي ساعات الضعف البشري، وهي ساعات الغضب، والرغبة،
والانفعال.
*
وروى نساؤه كل ما كان بينه وبينهن. هاكم السيدة عائشة تعلن في حياته وبإذنه
أوضاعه في بيته، وأحواله مع أهله، لأن فعله كله دين وشريعة...
لقد
رووا عنه في كل شيء حتى ما يكون في حالات الضرورة البشرية، فعرفنا كيف يأكل، وكيف
يلبس، وكيف ينام، وكيف يقضي حاجته، وكيف يتنظف من آثارها.
·
فأروني عظيما آخر، جَرُءَ أن يغامر فيقول
للناس: هاكم سيرتي كلها، وأفعالي جميعا، فاطلعوا عليها، وارووها للصديق والعدو،
وليجد من شاء منهم مطعنا عليها.
·
و رسول الله كانت له في وقت واحد تسع
زوجات، فربما إن استطاعت إحداهن إخفاء شيء ما استطاعت الأخرى ومع ذلك ، كانت كل منهن في إذن من الرسول بأن تقول عنه
للناس كل ما تراه منه في خلواته، وهن في حِلّ من أن يخبرن الناس في وضح النهار كل
ما رأين منه في ظلمة الليل، وأن يتحدثن في الساحات والمجامع بما يشاهدن منه في
الحجرات. فهل عرفت الدنيا رجلًا كهذا الرجل يثق بنفسه كل هذِهِ الثقة، ويعتمد عليها
إلَى هذا الحد، ولا يخاف قالة السوء عنه من أحد؛ لأنه أبعد الناس عن السوء؟!
كان عظيما لأنه كان متناغما مع مبادئه وحياته انعكاس واضح لها
ليس
كوعاظ اليوم وخطبائهم يحدثون عن الجوع ولا يعرفونه وعن الصبر على البلاء وهم في
رغد العيش!!
-كثير ممن نعرف من الدعاة، قديما وحديثا، يقولون
بألسنتهم ما تخالفه أفعالهم، ويعلنون في الملأ ما لا يأتونه في الخلوات، وتغلب
عليهم طبائع نفوسهم، في ساعات الرغبة والرهبة والغضب والجوع والحاجة، فينسون كل ما
يقولونه.
فنحن لا نكان نعلو قليلا حتى يغلب ثقل طبيعتنا
وشهوات أنفسنا الأمارة بالسوء، فنعود إلى الأرض. ويرى الناس ذلك من الوعاظ
والخطباء فلا يبالون بما يقولون، ولا يكون للوعظ فيهم أثر.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يدع يوما
إلى محاضرة جامعة في بيان أحكام الإسلام، ولم يقم مدرسة لها ساعات ودروس، ولم
يجلس في حلقة وعظ، بل كان يبلغ ما يوحى إليه في البيت والمسجد والطريق ويأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر، حين تدعوا الحاجة إليه، ولكنه يقول ذلك بلسانه وعمله،
ويعبر عنه بقوله وفعله. فقد كان خلقه القرآن، وأنتم تسمعون هذه الكلمة ولا تفكرون
في معناها، ومعناها يا سادة: أن كل فعل من أفعاله، وكل خلق من خلائقه، آيات تتلى،
ومحاضرة تلقى، وحلقة درس ومجلس وعظ، لأنها كلها تنطق بما يأمر به القرآن.[2]
الناس لا تؤمن بالنظريات المجردة :
إن نظرية مهما تبلغ من الصحة ودقة الفكر، وإن
تعليمًا مهما يكن رائقًا ويقع من الناس موقع الإعجاب، وإن هداية مهما تجمع من صنوف
الخير؛ كل أولئك لا يغني غناء ولا يثمر ثمرة ولا يبقى علَى الدهر إلَّا إذا كان له
مَن يمثله بعمله، ويدعو إليه بأخلاقه وفضائله، ويُعَرِّفه إلَى الناس بالقدوة
والأسوة؛ فيقتدي الناس بدعاته من طريق العمل بعد العلم، مُعجبين بسَجايا هؤلاء الدعاة،
مُعَظِّمين لأخلاقهم، مُكرمين طهارة قلوبهم، وزكاء نفوسهم، وسجاحة أخلاقهم، ورجاحة
عقولهم، وحصافة آرائهم، وسداد أفكارهم.[3]
وليست الأفكار
الصحيحة، والنظريات الشائقة، والأقوال الحسنة؛ هي الَّتِي تجعل الإنسان إنسانًا
كاملًا، وتجعل من حياته أسوة للناس، ومثلًا أعلَى في الحياة؛ بل أعمال الداعي
وأخلاقه هي الَّتِي تجعله كذلك. ولولا ذلك؛ لما كان هناك فرق بين الخير والشرّ،
ولما تميّز المصلِح عن غيره، ولامتلأت الدنيا بالثّرثارين والمُتفيهقين الَّذِي
يقولون ما لا يفعلون.
سأل بعضهم
الشاعر الهندي طاغور : ما بال نِحْلَة (برهمو سماج)[4]
أخفقت في مساعيها ولم تنجح، مع أنها أنصفت الأديان، وجمعت الحسنات، وسالمت جميع
المِلَل، ومِن مبادئها وأصولها أن الديانات كلها علَى حق، وأن جميع المصلحين من
الأنبياء والرسل والهداة هم خيار الناس وصلحاؤهم، ثم إنها ليس فيها ما يُخالف العقل،
أو يعارض المدنية الحاضرة، أو يناوئ الفلسفة الحديثة، وصاحب هذِهِ النِّحْلَة قد
راعى فيها الظروف الراهنة والشئون المألوفة الآن، ومع ذلك كله لم تنل من الفوز
شيئًا، ولم يُتَح لها من النجاح قليل ولا كثير ؟! وقد أحسن الشاعر في جوابه
علَى هذا السؤال كل الإحسان؛ إذ قال: «إن النِّحْلَة لم يكن لها داعية يدعو
الناس إليها بسيرته الكاملة وهديه العالي، ولم يكن لها لسان يدعو مُؤَيِّدًا بعمل
يصدِّقه؛ فتهوي إليه أفئدة الناس وتطمح إليه أبصارهم، ويكون لهم من الدعاة أسوة
يأتسون بها، وقدوة يقتدون بها».[5]
كان عظيما لأنه لم يحب المجاملة ولا المداهنة ولا النفاق كما يحسنه
السياسيون :
- وأنا أكتفي بمثال واحد[6]
على إيمانه بما يدعو إليه، وتمسكه بتطبيقه تمسكا كاملا يعلو على كل الاعتبارات
وأمهد لهذا المثال بصورة واقعة.
لو اتُّهِمَت فتاة
من أشرف الأُسر – من أسرة كبيرة أو وزير – بتهمة السرقة، أترونها تسجن كما تُسجن
(نورية[2])، لو كانت هي السارقة، وينفذ فيها حكم القانون كما ينفذ في تلك النورية،
أم تمتد إلى قضيتها مئة إصبع، فتستر الجرم، أو تسهل المحاكمة، أو تهون العقاب؟
- لقد وقعت قضية كهذه على عهد الرسول. فتاة
من أشرف أسر قريش،
من بني مخزوم، من أسرة الوليد الذي يقال له الوحيد، أسرة خالد سيد قواد المعارك،
وهي ثالث أسرة شرفا بعد هاشم وأمية، سرقت هذه الفتاة، وثبت الجرم، وتقرر الحكم،
فسعى ناس في الوساطة لها، يظنون أن الرسول – لما يعرفون من حبه للصفح والعفو –
سيعفو، فإذا هو يغضب ويفهمهم أنما أهلك من كان قبلهم، أنهم إذا اجترم الشريف
تركوه، وإذا اجترم الضعيف عاقبوه.
ويقول لهم قولته العجيبة التي وطدت في حياة الإسلام ركنا ثابتا، وقررت أن الحدود لا تسمع فيها شفاعة، ولا يكون فيها عفو: "أما والله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها".
ويقول لهم قولته العجيبة التي وطدت في حياة الإسلام ركنا ثابتا، وقررت أن الحدود لا تسمع فيها شفاعة، ولا يكون فيها عفو: "أما والله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها".
إن قريشا عرضوا
عليه ما شاء من أموالهم إن شاء الغنى، وعرضوا عليه السلطان والأمارة عليهم إن شاء
الجاه، ولم يتركوا شيئا مما يعلمون ميل النفوس إليه، وتعلقها به، إلا بذلوه له،
ليترك دعوته. فكان يأبى عليهم ما عرضوه، راثياً لهم مشفقا عليهم.
مانع من رقابة ولا
من عرف، ولقد كان أمثاله من الشباب غارقين في هذه الملذات، لا يحرمها عليهم دين
ولا قانون.
قال أحد فلاسفة
الغرب : "إنني أشك أن أي إنسان لا يتغير رغم
التغيرات الكبيرة في ظروفه الخارجية ، كما لم يتغير محمد، لكي يلائم ويوافق هذه التغيرات
ر. ف. ك بودلي في " جريدة الرسول " لندن سنة 1946 ص 6
كان عظيما لأنه استطاع أن يمتلك حب أصحابه ومن حوله
- يقول جون ديفنبورت في كتابه «الاعتذار عن
محمد والقرآن Appology for Md. And Quran»: «إن أتباع عيسي ـ عليه السلام ـ ينبغي لهم أن
يجعلوا علَى ذِكر منهم أن دعوة محمد ﷺ أحدثت في نفوس أصحابه من الحميّة ما لم
يحدُث مِثله في الأتباع الأولين لعيسى ـ عليه السلام ـ ، ومَن بحث عن مِثل ذلك لا
يرجع إلَّا خائبًا؛ فقد هرب الحواريون، وانفضُّوا عن عيسى حين ذهب به أعداؤه
ليصلبوه؛ فخذله أصحابه، وصَحُوا من سكرتهم الدينية، وأسلموا نبيهم لأعدائه يسقونه
كأس الموت! أما أصحاب محمد؛ فالتفوا حول نبيّهم المبغي عليه، ودافعوا عنه مخاطرين
بأنفسهم إلَى أن تغلب بهم علَى أعدائه». (انظر: الترجمة الأوردية ص66 ـ 67، عن
مطبوعة برلين سنة 1873).
وحين كرّ مشركو
قريش يوم أُحُد علَى المسلمين؛ فاختلت صفوفهم وتفرق جمعهم؛ نادى الرسول ﷺ: مَن
يَفديني ؟ فخرج من الأنصار سبعة؛ دافع كل واحد منهم عن الرسول، وما زال يقاتل دونه
حتى قُتِلَ، وقد قُتِل لامرأة من الأنصار في هذِهِ الحرب ثلاثة رجال من بيتها:
أبوها وأخوها وزوجها، وتتابع إليها نعي الثلاثة واحد بعد واحد؛ فكانت تسأل أولًا
عن الرسول ﷺ كيف هو ؟ فيقول لها: إنه سالم، ثم لما رأت وجهه ﷺ؛ سُرّي عنها، ولم
تتمالك أن صاحت قائلة: «كل مصيبة بعدك جَلَلٌ يا رسول الله» !
لم يكن يعيش في برجه العاجي ولكنه كان وسط قومه :
نجده يشارك أصحابه في مأكلهم ومشربهم كما يشارك
النبي أصحابه كذلك في مزاحهم ولهوهم -ولم يكن مزاح رسول الله
إلاَّ حقًّا
- وكان
النبي يحبُّ صحابيا ، وكان رجلاً دميمًا، فأتاه
النبي يومًا،
وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال الرجل: أرسلني، مَن هذا؟ فالتفت
فعرف النبي... وجعل النبي يقول: "مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟" فقال: يا رسول
الله، إذًا والله تجدني كاسدًا. فقال النبي
: "لَكِنْ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ". أو قال: "لَكِنْ
عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ [7]
هكذا كان يتعامل رسول الله مع نفسيَّة أصحابه فيُعلي
من شأنهم، فيسعد لسعادتهم ويحزن لحزنهم.
وفي أحلك لحظات المسلمين شدَّة وجدنا رسول الله مع أصحابه كواحد منهم، يعاني ممَّا
يعانون، ويتألَّم ممَّا يتألَّمون، ويلتمس أي شيء يكون سببًا في إشباعهم من الجوع،
وإسعادهم من الحزن، فرغم جوع المسلمين في الخندق، ورغم قلَّة الطعام الذي أعدَّه جابر
بن عبد الله إلاَّ أنَّ رسول الله لم يأكل دون إشراك أصحابه معه؛ حيث نادى في أصحابه
قائلاً: "يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا ، فَحَيَّ
هَلاً بِكُمْ.
فلم يتميَّز عنهم بمزيَّة، بل كان كواحد منهم في المأكل والمشرب
والملبس، وهو ما جعل كثير من المشركين يتعجَّبون لهذه الرابطة القويَّة التي جمعته
بأصحابه، فقال أبو سفيان بن حرب قبل إسلامه: "ما رأيتُ من الناس أحدًا يحبُّ أحدًا
كحُبِّ أصحاب محمد محمدًا!!"
هذه العظمة لهي من أكبر المعجزات والدلالات على صدق رسالته ودعوته :
وهي
التي يجب أن نخرج بها إلى العالم اليوم لا بغيرها
وأنا أعجب[8]
لماذا حاول المتأخرون من مؤلفي السيرة الاستكثار من المعجزات، والتوسع فيها،
وإضافة معجزات لم تكن، وما حاجتهم إليها؟ وكل موقف من سيرة الرسول، وكل جانب من
شخصيته، هو معجزة من أكبر المعجزات.
·
وما المعجزة؟ أليست الأمر الذي يعجز الناس
عن مثله؟!
إن صدقه وأمانته معجزة و أعرض مثالاً واحداً،
تعرفون أنه لما هاجر الرسول إلى المدينة، ترك علياً مكانه ليرد الودائع
التي كانت عنده لقريش، فهل فكرتم يوما ما قصة هذه الودائع؟
يردها لقريش لا للمسلمين، إذ لم يبق أحد من المسلمين في مكة لما هاجر الرسول، لأنه كان آخر من هاجر، بقى كما بقى الربان في السفينة الجانحة، لا يتركها حتى ينزل الركاب جميعاً، ويصلوا إلى قوارب النجاة وهذه مَنْقبة ذكرتها عرضا.
قصة الودائع هي أن
قريشا كانت (على كل ما كان بينها وبين الرسول) لا تجد من تأتمنه على ذخائرها إلا
محمدا، فتصوروا حزبين مختلفين، الحرب قائمة بينهما، حرب اللسان واليد والمبدأ
والعقيدة، ثم يأتمن أفراد الحزب على أموالهم وأوراقهم، رجلا من الحزب الآخر!
هل سمعتم بمثل هذه
الحادثة؟ وكيف يستودعونها هذا الخصم، إن لم يكن في أخلاقه وأمانته معجزة من
المعجزات، والشك فيه أحد المستحيلات؟
0 comentarios:
Publicar un comentario