﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا
ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ
رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
(25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ
الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ
اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)﴾
مناسبة
الآية لما قبلها :
بعد أن شرح الحق سبحانه أحوال أهل القُرْب والسعادة، وأهل البُعْد
والشقاء، أراد عز وجل أن يضرب لنا مثلًا يوضح فيه الفارق بين منهج السعداء الذين
عاشوا بمنهج الله، ومنهج الأشقياء الذين اتبعوا مناهج شتى غير منهج الله ..
المثال
المحسوس أكثر وقوعا في الذهن :
والحق- سبحانه وتعالى- يضرب لنا الأمثال بالأمور المُحسَّة، كي ينقل
المعاني إلى أذهاننا؛ لأن الإنسان له إلْفٌ بالمحُسِّ؛ وإدراكات حواسه تعطيه
أمورًا حسية أولًا، ثم تحقق له المعاني بعد ذلك.
والمثل
الذي يضربه الحق سبحانه هنا هو الكلمة الطيبة:
* والطيبة: النافعة، استعير الطيب للنفع
لحُسن وقعه في النفوس كوقع الروائح الذكية.
- قول جمهور المفسرين الذين يقولون الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة فكل عمل صالح مرضي لله
ثمرة هذه الكلمة .
- وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال كلمة طيبة شهادة أن لا إله إلا الله كشجرة طيبة وهو المؤمن أصلها ثابت
قول لا إله إلا الله في قلب المؤمن : وفرعها في السماء يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء .
-
وقال الربيع بن أنس كلمة طيبة هذا مثل الإيمان فالإيمان الشجرة الطيبة وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه وفرعه في السماء خشية الله ....ولا تزال
هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقوقها
ومراعاتها حق رعايتها ...
أنها
مثل شجرة طيبة.
- القاسمي : كونها طيبة، أعم من طيب
المنظر والصورة والشكل ومن طيب الريح وطيب الثمرة وطيب المنفعة.
- ومن السلف من قال: إن الشجرة الطيبة
هي النخلة ...
- ومنهم
من قال: هي المؤمن نفسه
** فعن ابن عباس قوله يعني بالشجرة الطيبة المؤمن
ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم
فيبلغ عمله وقوله السماء وهو في الأرض ...
فهي
أن تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها
* أي: فيها عطاء المدد المدد الذي لا يعرف الحد ولا العدد، وهي تدل
على صفات المؤمنين المحبين.
* وكون ثمرتها تجتنى كل حين فلا تنقطع بركاتها وخيراتها.
- فمنهم مَنْ قال: إن الحين يُطلْق على اللحظة؛ مثل قول الحق سبحانه: فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ [الواقعة: 83-84].
- وقال مُفسِّر آخر: إن الحين يُقصد به الصباح والمساء، والحق سبحانه هو القائل: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17.
- وأقول: فلننتبه إلى أن الحين هو الوقت الذي يحين فيه المقدور
- وقال مُفسِّر آخر: إن الحين يُقصد به الصباح والمساء، والحق سبحانه هو القائل: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17.
- وأقول: فلننتبه إلى أن الحين هو الوقت الذي يحين فيه المقدور
وهكذا يكون معنى الحين هنا هو الأجل غير المُسمّى الذي يمتد إلى أن
تتبدّل الأرضُ غيرَ الأرض والسماء غير السماء. إذن: فلا يوجد توقيت مُحدد المدة
يمكن أن نُحدد به معنى حين.
حتى
يتجدد عطاؤها كل حين لا بد أن تتجدد وتتعهد وتتغذى:
- وبما أنها شجرة طيبة؛ فهي كائن نباتيّ
لابد لها من أن تتغذَّى لتحفظ مُقوِّمات حياتها. ومُقوِّمات حياة النبات توجد في
الأرض ، فإنْ كانت الشجرة مُخَلْخَلة وغير ثابتة فهي لن تستطيع أن تأخذ غذاءها.
ابن القيم : ومنها أن الشجرة لا
تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها فإذا قطع عنها السقي
أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها
كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر
على التذكر وإلا أوشك أن تيبس...
- وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه [إن الإيمان
ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبك]
ومنها أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه
العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه فإن تعاهده ربه
ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع واستوى وتم
نباته وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى وإن تركه أوشك أن يغلب
على الغرس والزرع ويكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل
الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته ....
فالمؤمن دائما سعيه في شيئين سقي
هذه الشجرة وتنقية ما حولها فبسقيها تبقى وتدوم وبتنقية ما حولها تكمل وتتم
- أبيات سيدي منير
الركراكي في الكلمة الطيبة :
قلها أخي قلها فإن لها صدى
يمحو عن القلب الخبائث والصدى
قلها وأكثر، فاز منا مُكثر
من قولها أمضى الحياة مفرِّدا
جدِّد بها الإيمان من فرط البِلى
أكرم بها متصدِّقا متزوِّدا
هي كِلْمة ضرب الرسول لنَا بِها
مَثَلَ الأصيلة فرعها يَطوي المدى
كالنخلة الهيفاء تؤتي أكْلها
دوماً بإذن الله يا نِعْمَ الجَدَا
هي كِلْمة السّر التي إن قلتها
صِدْقاً نجوت من المهالك والعِدى
قُلها قياما أو قعودا لا تَنِي
قُلها إذا رُمت الكَرى
متوسِّدا
رطِّب لسانك يا أُخَيَّ بذكرها
زيِّن جَنانك إنها قطر النَّدى
قل لا إله سواه إني مؤمن
بكتابه ورسوله نفسي الفدا
هي كِلْمة التقوى وخير مقالة
من قالها عند الممات تجرَّدا
ختَم الحياة بما يؤمِّن فوزه
ومضى وقد ترك الأصيلة موعِدا
بل حازها تأشيرة لرحيله
لمنازل السعداء نال المقصدا
لا دين إلا للذي أدْلى بها
فهي الشهادة لُذْ بها متشهدا
هي عهد بارينا وميثاق التُّقى
وبِقوْلها يُمسي الكفور مُوحِّدا
فأملأ بها وقتا نفيسا في الدنى
لتنال في الأخرى المُنى والسؤددا
علِّم وليدك قولها أوْلى له
من هَرْطَقاتٍ ذكرها يمضي سدى
تحيى القلوب بها وتُضحِي قِبلة
للنور في الظلمات تُمسي فرقدا
تفسير الكلمة الطيبة بمطلق
الكلام الطيب النافع :
ـ الكلمة الطيِّبة تُزهر في النفس لتتفتَّح بأجمل أزهار الخير والحبِّ الَّتي يعبق شذاها فوَّاحاً في كلِّ زمان ومكان. والكلمة الخبيثة نتنة الرائحة، تصدر عن بؤر نفسية عفنة.
·
إن الكلمة الطيِّبة ترجمة صادقة للشعور الطـيِّب
والإحساس النبيل، تحمل بين حروفها دفء الحبِّ ولذَّة العطاء، وسعادة التواصل
الرفيع بين إنسان وإنسان؛ فهي رَوْح ورَيحان، كمثل شجرة مباركة جذورها ضاربة في عُمق الأرض، تمتصُّ منها غذاءها
وأملاحها وتحوِّلها إلى نُسغ يصعد إلى ساقها فأغصانها فأوراقها، فترتعش فيها دفقة
الحياة، وإذا بها تتطاول صاعدة في السماء، ثمَّ تزهر وتثمر في موعدها المحدَّد
بإذن خالقها، فتتجمَّع حولها القلوب المتلهِّفة، والنفوس المتعطِّشة لجني ثمرها،
والتنعُّم بخيرها المتجدِّد كلَّ عام.
* ولئن كانت جذور الشجرة الطيِّبة تتفرَّع في جوف الأرض، فإن الكلمة
الطيِّبة تتفرَّع في شغاف القلب، وتلامس سويداءه لتخلِّف مكانها أمناً وسلاماً،
بينما تصعد فروعها إلى سماء النفس فتجلوها، وإلى مرآة الوجدان فتصقلها، وتنشر على
من حولها ظلال الإيمان الندية، فهي لبنة أساسية في صرح السعادة الإنسانية..
· وإذا كانت الكلمة الطيِّبة كشجرة طيِّبة، فإن الكلمة
الخبيثة كشجرة مرٌّ ثمرها، خبيث ريحها، طلعها كأنه رؤوس الشياطين.... والكلمة الخبيثة ألغام متفجِّرة
في طريق المجتمع المتكاتف، تُفتِّت وحدته، وتقتلع جذور الأخوَّة الَّتي تثبِّت
المحبَّة بين أبنائه، وتنشر مكانها بذور البغضاء والأحقاد، فيعمُّ فيه الفساد،
وتنهار أواصره، وتتداعى مقوِّماته ليصبح هباء منثوراً تذروه الرياح.
معنى التذكر في قوله لهلهم
يتذكرون :
وهنا قال الحق سبحانه: وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون
والتذكر معناه أن شيئًا كان معلومًا
بالفطرة؛ ولكن الغفلة طرأتْ؛ فيأتي المَثَلُ ليُذكِّر بالأمر الفطريّ.
مقابل الشجرة الطيبة وضدها :
الشعراوي ونلحظ هنا في وَصْف الكلمة الخبيثة بأنها كالشجرة الخبيثة؛ أن الحق
سبحانه لم يَقُلْ إن تلك الشجرة الخبيثة لها فَرْع في السماء؛ ذلك أنها مُجْتثة من
الأرض؛ مُخْلخلة الجذور؛ فلا سَند لها من الأرض؛ ولا مددَ لها من السماء.
ولذلك يَصِفها الحق سبحانه بأنه ما لها من قرار
ولذلك يَصِفها الحق سبحانه بأنه ما لها من قرار
وتأتي هنا كلمة التثبيت طبيعية بعد قوله: اجتثت مِن فَوْقِ الأرض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [إبراهيم: 26].
لأن الذي يُجتثُّ لا ثبوتَ له ولا استقرارَ؛ فجاء بالمقابل بقوله: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ...} [إبراهيم: 27].
لأن الذي يُجتثُّ لا ثبوتَ له ولا استقرارَ؛ فجاء بالمقابل بقوله: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ...} [إبراهيم: 27].
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ
آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ :
الشعراوي وتُوحي كلمة التثبيت أيضًا بأن الإنسان ابنٌ للأغيار، وتطرأ عليه الأحداث التي هي نتيجة لاختيار المُكلَّفين في نفاذ حُكْم أو إبطاله، فالمُكلَّف حين يأمره الله بحكم؛ قد يُنفِّذه، وقد لا ينفذه.
وكذلك قد يتعرض المكلّف لمخالف لمنهج الله، فلا يُنفِّذ هذا المخالفُ تعاليم المنهج؛ ويؤذي مَنْ يتبع التعاليم، وهنا يثق المؤمن أن له إلهًا لن يخذله في مواجهة تلك الظروف، وسينصره إنْ قريبٌ أو بعيد على ذلك.
*
وتثبيتهم به في الدنيا، أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلِّوا، كما ثبت أصحاب
الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد...
* وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم
ودينهم لم يتلعثموا ولم يبهتوا ولم تحيرهم أهوال الحشر.
وقيل: معناه: الثبات عند سؤال القبر
- لما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «المسلم إذا سُئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول
الله، قال: فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}». رواه الشيخان وأهل السنن.
وَيُضِلُّ الله الظالمين
وسبحانه يُضلّ الظالم لأنه اختار أنْ يظلم؛ وهو سبحانه قد جعل للإنسان حَقَّ الاختيار، فَمنَ اختار أن يظلمَ؛ لابد له من عقاب. وإذا كان سبحانه قد خلق الخَلْقَ وجعل الكون مُسخرًا لهم؛ وأعطى المؤمن والكافر من عطاء الربوبية؛ فإن اختار الكافرُ كفره؛ فهو لن يُنفِّذ تكاليف الألوهية التي أنزلها الله منهجًا لهداية الناس.
وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَا:
أي: من التثبيت
والإضلال حسبما تقتضيه حكمته البالغة. اهـ
0 comentarios:
Publicar un comentario