martes, 6 de septiembre de 2016

حسن البنا

0 comentarios
المولد :

ولد الإمام الشهيد حسن أحمد عبد الرحمن البنا في ضحي يوم الأحد 25 شعبان 1324هـ الموافق أكتوبر 1906م ، بالمحمودية في محافظة البحيرة بمصر ، وكان الابن الأكبر لأبوين مصريين من قرية شمشيرة بندر فوه التابع لمديرية الغربية سابقاً ومحافظة كفر الشيخ حاليًا.
أبواه وأخوته :

هو الابن الأكبر للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي ، وذلك نظرًا لعمله في إصلاح ، وكان الشيخ أحمد عالمًا بالسنة ، فقد رتب معظم أسانيد الأئمة الأربعة علي أبواب الفقه ، وله مؤلفات في السنة منها " بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن " كما شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل وسمى الشرح " بلوغ الأماني من أسرار الفتح الباني " ، وقد كان الشيخ يعتبر نفسه من تلامذة الإمام محمد عبده .

ووالدة الإمام الشهيد هي السيدة الفضلى:

أم سعد إبراهيم صقر , والدها تاجر مواش بقرية شمشيرة , وهي أيضًا من نفس قرية والد الإمام الشهيد وهي تواجه المحمودية علي الضفة الثانية للنيل .

وكانت ذكية ومدبرة وواعية , كما كانت علي جانب كبير من العناد , فإذا انتهت إلي قرار فمن الصعب أن تتنازل عنه , وهي صفة ورثها الإمام الشهيد ابنها الأكبر كما ورث منها ملامح الوجه, ولكن العناد تحول إلي صورة سوية أصبح معه " قوة إرادة " ولم يشاركه في هذه الوراثة من إخوته سوي شقيقه عبد الباسط رحمه الله .

إخوته :

عبد الرحمن الذي أسس جمعية الحضارة الإسلامية في القاهرة التي اندمجت في الإخوان عند انتقال الإمام البنا إلي القاهرة وأصبح من الأعضاء البارزين في الإخوان .

وفاطمة ( حرم الأستاذ عبد الحكيم عابدين ) , ومحمد توفي في مارس 1990م شعبان 1410هـ , وعبد الباسط ( وكان ضابطًا بالبوليس ورافق الإمام الشهيد حتى قبيل أيام من اغتياله ، واستقال من خدمة البوليس وعمل بالسعودية وتوفى بها ودفن بالبقيع بناء علي وصيته رحمه الله ) , وزينب التي توفيت وهي لم تتجاوز السنة من عمرها.

والأستاذ أحمد جمال الدين ( الكاتب المعروف والمصنف والمشهور باسم جمال البنا ) , وفوزية ( حرم الأستاذ عبد الكريم منصور المحامي الذي كان مع الإمام الشهيد ليلة الاستشهاد وأصابه رشاش من رصاصات القتلة وتوفى سنة 1989 رحمه الله ) .

وقد ولد كل هؤلاء الأولاد والبنات في بيت واحد وفي غرفة واحدة كان يطلق عليها " غرفة الدكة " أو " مسقط الرؤوس العظيمة " .

علاقة الإمام البنا العائلية في  الأسرة التي نشأ فيها وترعرع :

-       وقد أحاط الأب وكذلك الأم ابنها حسن برعاية كاملة حتى أن الأم " تتمسك بأن يتم حسن تعليمه علي أعلي مستوى.
وعندما ضاقت موارد الأسرة باعت ( كردانها ) الذهبي , وفي مرحلة لاحقة ولاستكمال التعليم أيضًا باعت سواريها وكانت مضفرة ثقيلة من الذهب البندقي- كما يقولون – أي أنها من الذهب الخالص عيار 24 "

-       وعندما تجاوز الابن مرحلة الطفولة قام بمعاونة أبيه في إصلاح الساعات وقضاء بعض الأعمال نيابة عن الوالد .

وكان والد الإمام الشهيد يكلفه بقضاء العديد من المصالح وتسوية بعض المشكلات بالبلد ( المحمودية ) بعد أن مضي علي انتقاله إلي القاهرة قرابة عامين.

-       وظل والده يتعلق بهذه الأعمال حتى عام 1933م " وبعد تعيين الإمام بالإسماعيلية ظل يعاون أباه ولكن بطريقة أخري , فقد كان يمد أباه بربع أو ثلث مرتبه فضلاً عن استضافته لبعض إخوته , وذلك عندما ضاقت أحوال والده المادية

يقول جمال البنا :" عندما بدأت الضائقة الاقتصادية تطبق عليه ( والد الإمام البنا ) أعانه ابنه الأكبر الإمام الشهيد بمبلغ أربعة أو خمسة جنيهات فضلاً عن أنه استقدم إليه بعض أشقائه لمدد طويلة " .

ولم تقتصر مساعدة الإمام الشهيد لوالديه علي المساعدة المالية بل ساعد أيضًا فر تربية إخوته من الناحية الخلقية ومن الناحية العلمية .

ولم يكتف بالاهتمام بمن يعيش معه من إخوته بل كان يقدم النصيحة للأب للعناية ببقية الأخوة فهو يقول في أحد خطاباته لوالده :
" أما جمال فهو مسرور كل السرور وقد أدخلته مدرسة أولية فهو يتعلم بها ويحبه أساتذتها ويكرمونه جداً ، أما فاطمة فأنا أوصيها كلما سنحت الفرصة الوصايا التهذيبية وسأشرع معها في القراءة والكتابة بحول الله وقوته .
وعبد الباسط كذلك أهتم بتهذيبه جداً ، وبالجملة فآمل بعون الله أن أوفق إلي أرشادهم خير الإرشاد إلي ما ينفعهم في المعاش والعبادة ولهم درسان في الأسبوع بعد العشاء يحفظون فيها الحديث ، وكم يكون سروركم عظيمًا إذ سمعتم جمال الدين وهو يقرأ الأحاديث التي حفظها بتجويد وإتقان مثلاً " يامعاذ أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك ولتبك علي خطيئتك " وحديث " صل من قطعك وأحسن إلي من أساء إليك وقل الحق ولو علي نفسك " الخ ، وكذلك الجميع ، ولنا جدول منظم يشمل الرياضة والمذاكرة والسمر والطعام ، فاطمئنوا من هذه الوجهة كل الاطمئنان .

وقد أرشد البنا والده لطريقة تحبب النظام إلي الأولاد وتجعل النظام هو سمت كل أعمالهم فيقول في خطاب لوالده "

 سيدي الوالد ... الآن عرفت أن الأولاد إذا شعروا بالنظام في المنزل نظموا كل أعمالهم ، ولذلك أرجو أن تنظموا المنزل نظامًا حسنًا ، فمثلاً تجعلون الصالة لسفرة الأكل وحجرة للجلوس والمذاكرة وحجرة لنومكم وحجرة لنوم محمد وعبد الرحمن وتضبطوا مواعيد الطعام والنوم بقدر الإمكان " .

وقد كان البنا مثالاً لما يجب أن يكون الابن لوالديه ، فقد كان أسعد أيامه كما يقول يوم يرضي عنه والده فهو يقول في أحد خطاباته:

" فقد ورد خطابكم الكريم وإن اليوم الذي استطيع فيه إرضاءكم هو أسعد أيامي حقاً ، وعقيدتي أنني ما خلقت إلا لأرضيكم ، وليس لي من الحق في كل ما يقدره الله لي بعض ما لكم ، ذلك ما اعتقده وأقوله بإخلاص ويقين . والذي أريده فقط أن تغتبطوا بذلك وتعلموه وأن تخفف سيدتي الوالدة من ألمها لعدم التوفير فإن هذه ضرورة لابد منها ستنفرج عما قليل ، والله إنني لأقضي ساعات طوالاً في ألم لتألم والدتي ، وفي تفكير كيف أرضيها وكيف أسعدها وكيف أجعلها هانئة مغتبطة . فهل يوفقني الله إلي هذه الأمنية " .

زواج الإمام البنا :

كان ممن استجاب للدعوة من أهل الإسماعيلية أسرة كريمة من أسرها تدعي أسرة الصولي ، وهم تجار من متوسطي الحال ، وكانت هذه الأسرة من الأسر المتدينة بطبيعتها ومن يربون أولادهم علي الدين ،
-       وكانت والدة الأستاذ تزور هذه الأسرة؟
فسمعت في إحدى ليالي زيارتها صوتًا جميلاً يتلو القرآن فسألت عن مصدر ذلك الصوت فقيل لها إنها فلانة تصلي ، فلما رجعت الأم إلي منزلها أخبرت نجلها بما كان في زيارتها وأومأت إلي أن مثل هذه الفتاة الصالحة جديرة أن تكون زوجة له ، وكان ما أشارت به

فقد تزوجها فكانت أم أبنائه وهي التي رافقته في السراء والضراء وكانت خير عون في دعوته حتى لقي ربه شهيداً مظلومًا .

·        ومما تذكره إحدى بناتها  ثناء في حق والدتها :

والدتي رحمها الله كانت تقدم دائمًا مصلحة الدعوة علي مصلحة نفسها وبيتها ، وقد كانت تقوم علي رعايتنا حق الرعاية وتهيئ جو البيت لاستقبال الوالد المرهق من كثرة الأعباء والأعمال ، فيجد راحته في بيته لمدة سويعات قليلة ينطلق بعدها ثانياً إلي الدعوة ، ويذكر لوالدتي رحمها الله أنه عندما قام والدي بتأسيس المركز العام للإخوان المسلمين طلبت منه يأخذ كثيراً من أثاث البيت عن طيب نفس منها ليعمر بها المركز العام ، فنقل السجاجيد والستائر والمكتبات وكثيرًا من الأدوات وكانت سعيدة بذلك غاية السعادة.
لقد كانت رحمها الله تعتبر أي فرد من أفراد الجماعة هو أحد أبنائها ، وأذكر أنه عندما كانت تأتي أخت من الأخوات لتشكو زوجها كانت أمي تناقشها وكأنها أمها ، وفي نفس الوقت حماتها ، وتبادرها بالسؤال ماذا فعلت في أبني فلان حتى تصرف معك هذا التصرف ؟ ! ولقد كانت تشارك الإخوان أفراحهم وأحزانهم ، فكانت فرحة أي بيت من بيوت الإخوان هي فرحة في بيتنا ، وكانت مصيبة أي بيت هي مصيبة بيتنا أيضًا .

إكرام البنا لأهل زوجته والخادمة :

عندما تزوج الإمام البنا حرص علي أن يتعرف علي كل أهل زوجته وأقاربها ، وكل من له صلة رحم بها ، وكان يزورهم جميعًا وكثيراً ما كان يفاجئ زوجته بأنه قد زار قريبها فلان اليوم .
وكان رحمه الله يعامل خادمته كأنها من أهل البيت حيث كان للخادمة مثل أولاده سرير مستقل ودرج مستقر في دولاب واحد ، لكل واحد من أبنائه درج فيه .
وكان يكلف أبنته الكبرى وفاء بتعليم الخادمة في المساء القراءة والكتابة وأن تعلمها الصلاة وكثيراً ما كان يزور الخادمة في بيت زوجها عند زواجها وبعد مدة من توقفها عن الخدمة في بيته " .

وتقول ابنته ثناء :أذكر أنني ذات مرة عاملت الشغالة معاملة غير لائقة فأفهمني أن ما فعلته معها خطأ لأنها أختي في الإسلام، وكان عقابه لي أن أمسك بقلم رصاص وضربني به علي يدي ، وكان هذا كافيًا جداً يشعرني بأنه غاضب علي وكان درسًا لي لم أنسه طوال حياتي .

البنا وأولاده :

    كان البنا رب أسرة مثاليًا فلم يقصر في رعاية أبنائه والعناية بهم والاهتمام بكل شئونهم ، فقد كان لكل أبن من أبنائه دوسيه خاص يكتب فيه الإمام بخطه تاريخ ميلاده ورقم قيده وتواريخ تطعيمه ،ويحتفظ فيه بجميع الشهادات الطبية التي تمت معالجته علي أساسها ، وهل أكمل العلاج وكم أستغرق المرض إلي آخر هذه التفاصيل ، وكذلك الشهادات الدراسية ويدون عليها البنا ملاحظاته .

 وتروي أبنته الفاضلة ثناء " وكان عند عودته ليلاً إذا وجدنا نائمين يطوف علينا ويطمئن علي غطائنا ويقبلنا ، بل يصل الأمر أنه كان يوقظ أحدنا ويصطحبه إلي الحمام ".

وكان البنا كريماً مع أولاده وكان يعطي كل واحد منهم مصروفاً يوميًا ثلاثة قروش وكان يعطي أبنه سيف الإسلام مصروفًا شهريًا إضافيًا قدره نصف جنيه لشراء الكتب وتكوين مكتبة خاصة به ، وكان الإمام يتابع كل ما يقرأه أبناؤه رغم مشاغله الدعوية .
أسلوب البنا في تربية أبنائه

وكان أسلوب البنا في تربية أبنائه هو التوجيه غير المباشر فقد عرض لابنه سيف الإسلام بأن دخول السينما أمر لا يليق بالمسلم فلم يدخلها سيف قط ، وكان يتابع تصرفاتهم فعندما اشتري سيف بعض الروايات الأجنبية عن المغامرات لم ينهه عن قراءتها ولكنه أبدله خيراً منها مثل قصة الأميرة ذات الهمة وسيرة عنترة بن شداد وسيف ابن ذي يزن ، وبعض روايات البطولة الإسلامية وسيرة عمر ابن عبد العزيز..
التكوين العلمي والثقافي

بدأ الإمام الشهيد دراسته بالقرآن الكريم والثقافة الإسلامية فقد تطابقت إرادة والديه علي هذه البداية .

فقد أراد له أبوه رحمه الله أن ينشأ نشأة إسلامية حقيقية وأصر علي أن يحفظ القرآن ، واستكمل له الكثير من جوانب الثقافة الإسلامية في سن مبكرة ، ثم عهد به إلي الشيخ ( محمد زهران ) الذي كان أيضًا شيخه الأول وكان الشيخ زهران كفيفًا .

يقول عبد الرحمن البنا عن طفولة الإمام الشهيد: " كنا نعود من المكتب فتتلقفنا يد الوالد الكريم ، فتعدنا وتصنعنا ، وتحفظنا دروس السيرة النبوية المطهرة وأصول الفقه والنحو ، وكان له منهاج يدرسه لنا الوالد الكريم ، وكانت مكتبة الوالد تفيض بالكتب وتمتلئ بالمجلدات ، وكنا ندور عليها بأعيننا الصغيرة ، فتلمع أسماؤها بالذهب ، فنقرأ :
النيسابوري ، والقسطلاني ، ونيل الأوطار ، وكان يبيحها لنا ويشجعنا علي اقتحامها ، وكان أخي هو المجلي في الحلبة وفارس الميدان ، وكنت أحاول اللحاق به ، ولكنه كان غير عادي ، كان فرق السن بيننا سنتين ، ولكنه لم يكن الفرق الحقيقي ، بل فرق إرادة إلهية أعدته لأمر عظيم ، فكان طالب علم ولكنه مستقر موهبة ومستودع منحة ربانية ، وشتان بين المنزلتين ، وفرق بعيد بين المريد والمراد ! وكنا نسمع ما يدور في مجلس الوالد الكريم من مناقشات علمية ومساجلات ، ونصغي للمناظرات بينه وبين من يحضر مجلسه من جلة العلماء ، أمثال الشيخ محمد زهران والشيخ حامد محيسن ، فنسمعهم وهم يناقشون عشرات المسائل .

·        وكانت مراحل دراسة الإمام الشهيد كما يلي :

-       مدرسة الرشاد الدينية .
-       المدرسة الإعدادية .
-       مدرسة المعلمين الأولية بدمنهور .
-       دار العلوم بالقاهرة .
-       مدرسة الرشاد

  - وقال الإمام الشهيد عن شيخه:" وكان للرجل أسلوب في التدريب والتربية مؤثر منتج ، رغم أنه لم يدرس علوم التربية ولم يتلق قواعد علم النفس ، فكان يعتمد أكثر ما يعتمد علي المشاركة الوجدانية بينه وبين تلامذته ... ولا أزال أذكر بيتا من الشعر كان مكافأة علي إجابة في التطبيق أعجبته فأمرني أن أكتب تحت درجة الموضوع :

حسن أجاب وفي الجواب أجادا      فالله يمنحه رضا ورشادا
درجته :
يا غارة الله جدي السير مسرعة     في أخذ هذا الفتي يا غارة الله

ولقد ذهبت مثلاً وأطلقت علي هذا الزميل اسمًا فكنا كثيراً ما نناديه إذا أردنا أن نغيظه "يا غارة الله "..

و كان كفيفاً ولكن في بصيرته نور كثير عن المبصرين ولعلي أدركت منذ تلك اللحظة وإن لم أشعر بهذا الإدراك أثر التجاوب الروحي والمشاركة العاطفية بين التلميذ والأستاذ ، فلقد كنا نحب أستاذنا حبًا جمًا رغم ما كان يكلفنا به من مرهقات الأعمال ".

-       وكذلك استفاد الإمام البنا من شيخه حب الاطلاع والقراءة ومجالسة العلماء والانتفاع بعلمهم فيقول الإمام البنا:
" ولعلي أفدت منه – رحمه الله – مع تلك العاطفة الروحية حب الاطلاع وكثرة القراءة ، إذ كثيراً ما كان يصطحبني إلي مكتبته وفيها الكثير من المؤلفات النافعة لأراجع له وأقرأ عليه ما يحتاج إليه من مسائل ، وكثيراً ما يكون معه بعض جلسائه من أهل العلم فيتناولون الموضوع بالبحث والنظر والنقاش وأناأسمع".

·        المدرسة الإعدادية

" وما حاء أول أسبوع حتى كان الغلام ( حسن البنا ) طالبًا بالمدرسة الإعدادية يقسم وقته بين الدرس نهاراً وتعلم حرفة الساعات التي ألم بها بعد الانصراف من المدرسة إلي العشاء ، ويستذكر هذه الدروس بعد ذلك إلي النوم ويحفظ حصة من القرآن الكريم بعد صلاة الصبح حتى يذهب إلي المدرسة " .

-       وقد شارك الإمام الشهيد أثناء دراسته بالمدرسة الإعدادية في جمعية منع المحرمات ..
-       كما كان رئيسًا لمجلس إدارة جمعية الأخلاق الأدبية وكانت تحت إشراف أحد أساتذة المدرسة ..

·        ثم دخل مدرسة المعلمين في دمنهور :

وكان حينها كل ليلة جمعة يجتمعون في منزل الشيخ شلبي الرجٌال بعد الحضرة

يقول : ( حيث كنا نتدارس فيها كتب التصوف من الإحياء والياقوت والجواهر وغيرها ، ونسمع أحوال الأولياء ، ونذكر الله إلي الصباح )
كانت من أقدس مناهج حياتنا ، وكنت قد تقدمت في صناعة الساعات وفي صناعة التجليد أيضاً ، أقضي فترة النهار في الدكان صانعًا وفترة الليل مع الإخوان الحصافية ذاكراً .
وكان من عادتنا صوم الخميس والاثنين ثم إلي المسجد الصغير بعد ذلك للدرس والحضرة ثم إلي منزل الشيخ شلبي الرجال أو منزل أحمد أفندي السكري للمدارسة والذكر ثم إلي المسجد لصلاة الفجر ، وبعد ذلك استراحة يعقبها الذهاب إلي الدكان وصلاة الجمعة والغداء والدكان إلي المغرب فالمسجد فالمنزل وفي الصباح إلي المدرسة ، وهكذا دواليك في ترتيب لا أذكر أنه تخلف أسبوعًا إلا لضرورة طارئة " .

·        وكانت هذه المرحلة مرحلة تحول في حياة الإمام البنا من الناحية العلمية والثقافية:

 " فقد كانت أيام مدرسة المعلمين في سنواتها الثلاث أيام استغراق في التصوف والتعبد ، ولكنها مع ذلك لم تخل من إقبال علي الدروس وتحصيل العلم خارج حدود المناهج المدرسية ، ومرد ذلك إلي أمرين.

    أولهما : مكتبة الوالد وتشجيعه له بالقراءة وإهدائه إياه كتبا كان لها أبلغ الأثر في نفسه ومن أمثلتها : ( الأنوار المحمدية للنبهاني ) و ( مختصر المواهب اللدنية للقسطلاني ) و( نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للشيخ الخضري ) ، وقد صارت له – بناء علي هذا التوجيه وما تولد منه من شغف بالمطالعة وإقبال عليها – مكتبة خاصة فيها مجلات قديمة وكتب متنوعة " .
أما الأمر الثاني : فهو تشجيع المدرسين المخلصين للإمام الشهيد وصلته الروحية بهم أمثال الأستاذ عبد العزيز عطية ناظر مدرسة المعلمين حينذاك والأستاذ فرحات سليم ، والأستاذ الشيخ عبد الفتاح أبو علام والأستاذ الحاج علي سليمان والأستاذ الشيخ البسيوني .

·        وأدي الإمام الشهيد امتحان كفاءة التعليم فكان الأول في المدرسة والخامس في القطر

وكانت هذه النتيجة مفاجأة للإمام الشهيد وكان نجاحه في دخول دار العلوم مفاجأة ثانية ، وكانت مفاجأة ثالثة – كما يقول هو - :

" أن مجلس مديرية البحيرة قرر تعييني فعلاً مدرسًا بمدرسة خربتا الأولية ، ودعيت إلي تسليم عملي عقب الإجازة الصيفية مباشرة ، فكان علي بناء علي هذا أن أختار بين الوظيفة أو العودة إلي طلب العلم بدار العلوم ولكني في النهاية فضلت أن أستمر في سلك التعلم ، وأن أشد الرحال إلي القاهرة ، حيث دار العلوم .

·        القدر يدخل البنا دار العلوم :

وكان للإمام البنا رأي في العلم تأثراً برأي الإمام الغزالي في أن العلم الواجب هم العلم المحتاج إليه في أداء الفرائض وكسب العيش ثم الانصراف بعد ذلك إلي العمل ،

    وظل يتساءل بينه وبين نفسه لماذا يريد دخول دار العلوم ، هل للاستزادة من العلم ، فالعلم موجود في الكتب وعند العلماء ، أما إذا كان للدنيا فهذا شر ما يعمل له إنسان .

·        وتغلبت الفلسفة على نفسه حتى استطاع أحد أساتذته أن يقنعه بخلاف ذلك

وكان من قوله : إنك الآن علي أبواب شهادة الكفاءة والعلم لا يضر ، وتقدمك في امتحان دار العلوم تجربة للامتحانات الكبيرة ، وهذه فرصة لا تعوض ، فتقدم لتحفظ لنفسك حقها ، وأنا واثق من نجاحك إن شاء الله

الامتحانات وصعوبتها في دار العلوم :

يقول الإمام : ولذلك واجهت مهمة الامتحان في جد لا هزل معه ، فلم يكن إلا الجد ولم يبق إلا أسبوع واحد فلا ينفع إلا التبتل ، وقد كان ، فقد حملت أمتعتي وكتبي ويممت شطر الأزهر المعمور ، وهناك ، وفي القبلة القديمة بالضبط حططت رحالي ، وتعرفت إلي بعض الزملاء المتقدمين إلي دار العلوم ، ونوينا الاعتكاف هذا الأسبوع للعلم وللبركة معًا نتناوب الخروج لإحضار طعام الإفطار والسحور ، ونتناوب الحراسة في النوم فلا ننام إلا غراراً ، وقاتل الله علم العروض فلم أكن أفقه شيئاً من زحافة وعلله وضروبه وقوافيه وكان جديداً علي بكل معني الكلمة.

لكني أخذت أستذكر والسلام ، وكنت أخشي النحو والصرف إذ كنت أتصور أنني لا أشق فيهما غبار الطلاب المتقدمين من الأزهريين الذين جاوزوا الشهادة الأهلية ودرسوا في السنوات العالية ، نعم إنني أحفظ الألفية ، وقرأت شرح ابن عقيل عليها ، وشاركني الوالد في بعض هذه الشئون ، ولكنها لم تكن الدراسة المنظمة التي تهدأ معها النفس ، ويسكن لها القلب ..


   -  ويحكي الإمام الشهيد هذا الأمر في كتابه مذكرات الدعوة والداعية وبخاصة ليلة امتحان النحو والصرف فيقول :
" وإن من فضل الله تبارك وتعالي أنه يطمئن ويسكن نفوس عباده ، وإذا أراد أمراً هيأ له الأسباب .
فلا زلت أذكر ليلة امتحان النحو والصرف ( وليس الجبر كما جاء في بعض القول )رأيت فيما يري النائم :
أنني أركب زورقاً لطيفاً مع بعض العلماء الفضلاء الأجلاء يسير بنا الهويني في نسيم ورخاء علي صفحة النيل الجميلة ، فتقدم أحد هؤلاء الفضلاء ، وكان في زى علماء الصعيد ، وقال لي : أين شرح الألفية لابن عقيل ؟ فقلت ها هو ذا ، فقال :
تعال نراجع فيه بعض الموضوعات ، هات صفحة كذا وصفحة كذا لصفحات بعينها ، وأخذت أراجع موضوعاتها حتى استيقظت منشرحًا مسروراً .
وفي الصباح جاء الكثير من الأسئلة حول هذه الموضوعات ، فكان ذلك تيسيراً من الله تبارك وتعالي ، والرؤيا الصالحة عجل بشري المؤمن والحمد لله رب العالمين .

·        وتفوق الإمام الشهيد من السنة الأولي لدراسته في دار العلوم وكان الثالث علي دفعته.

ولم يكتف الإمام الشهيد بما كان يدرسه في دار العلوم ، ولكنه كان محبًا للعلم وتحصيله بشتى الطرق ، فقد كان يتردد علي المكتبات وكبار المفكرين والعلماء في ذلك العصر .

·        ثقافته واطلاعه الواسع :

ولم يكتف الإمام الشهيد بكل ذلك بل جعل المكافأة الشهرية التي كانت تمنحها له دار العلوم لشراء الكتب النافعة ، وقد قرأ الإمام الشهيد في شتى مجالات المعرفة ، وتشكلت ثقافته من كل أصناف ميراث الحضارة الإسلامية والتاريخ .

فقرأ للغزالي المتصوف والزمخشري وفخر الدين الرازي الفيلسوف وأبي الحسن الأشعري ( مؤسس المدرسة الشعرية ) بالإضافة إلي كتابات السلف والأئمة الصوفية ، كما قرأ لديكارت وإسحق نيوتن وميشال الفلكي الإنجليزي وهربرت اسبنسر واستشهد بهم " .

وقد كان الإمام الشهيد لا يكتفي بمجرد القراءة في المجالات المختلفة فيعرف شيئاً عن شيء بل كانت ثقافته موسوعية ، فقد كان يعرف التطور التاريخي لكل علم وأصوله لا سيما في اللغة والشرع ، حتى أنه كتب في كثير من علوم اللغة والشرع .

ويروي الأستاذ محمود عبد الحليم عن امتحانه في دبلوم العلوم فيقول نقلاً عن الإمام الشهيد : " وكان امتحان الأدب العربي هو الامتحان الرئيس في الدار وكان الامتحان فيه تحريريًا وشفويًا ، فلما مثلت بين يدي لجنة الامتحان الشفوي في امتحان الدبلوم النهائي لدار العلوم سألني رئيس اللجنة عما أحفظ من الشعر فقدمت إليه الكراريس فقال لي : ما هذه الكراريس ؟ قلت أن ما فيها هو ما أحفظه ! فتعجب الرجل وقال : هل أنت علي استعداد أن اسمع منك أية قصيدة أختارها من هذه الكراريس ؟ فأجبته بالإيجاب ، فطفق يطلب إلي أن أقرأ فأقرأ حتى اطمئن إلي أنني أحفظ ما فيها جميعًا .
ثم قال لي : أني أسألك السؤال الأخير : ما أحسن بيت أعجبك في الشعر العربي ؟ قلت : أحسن بيت أعجبني هو قول طرفة بن عبد في معلقته :
إذا القـوم قـالـوا من فتـى خـلت    أنـني عُنـيت فـلـم أكســل ولم أتـبلـد

قال : قم يا بني هذا السؤال يسأل للنابهين من الطلبة في كل عام هنا ، وفي الأزهر فلم يجب أحد بمثل ما أجبت إلا الشيخ محمد عبده .. إنني أتنبأ لك يا بني بمستقبل عظيم " .

   - وكانت مرحلة ( مرحلة دار العلوم ) هي مرحلة تنوع الثقافة فلم تكن الدراسة جامدة ، بل كان الطلاب والأساتذة يتناولون كثيراً من الأمور العامة سياسية كانت أو اجتماعية ، وكانت المواد التي تدرس في دار العلوم تتضمن علوم اللغة والأدب والشريعة والجغرافيا والتاريخ ومناهج التربية العلمية والعملية والاقتصاد السياسي

 وكان للبنا لقاءات متعددة مع أعلام الفكر والثقافة في عصره فكانت له لقاءات كثيرة مع السيد محب الدين الخطيب ، والأستاذ الكبير محمد الخضر حسين ، والأستاذ محمد أحمد الغمراوي ، وأحمد باشا تيمور ، وعبد العزيز باشا محمد ، كما كان يلتقي والشيخ رشيد رضا ، والشيخ عبد العزيز الخولي ، والشيخ محمد العدوى ، كان يلتقي بهم ويستفيد من علمهم وثقافتهم .
                                                                                                                                                   
كما كان البنا يغشي مجالس الشيخ يوسف الدجوي ويلتقي به ومن يجالسه من العلماء ويشارك في لقاءاتهم وكذلك كان كثير اللقاء بالأستاذ محمد فريد وجدي حيث يغشي داره ويجلس للاستفادة من المناقشات التي كانت تتم بينه وبين العلماء من ضيوفه حيث يتدارسون علومًا في شتي مناحي الحياة وكان البنا من محبي قراءة مجلة الحياة وكان من عشاق دائرة معارفه .

وتجلت ثقافة البنا في رسائله وكتبه ، وكثيراً ما تعرض لمواقف شتى تخلص منها بلباقته وسعة ثقافته .

 -  ففي بداية عهد الإسماعيلية تعرض له أحد المشايخ بسؤال أحرجه عن اسم والد سيدنا إبراهيم فقال البنا : إن اسمه تارخ ثم فسر له قول القائل بسؤال بأن آزر عمه وليس أباه . ويدل ذلك علي إلمام البنا بما في حواشي الكتب فضلاً عما تحتويه هذه الكتب من معلومات أساسية ...


والخلاصة فثقافة الإمام البنا مرت بمرحلتين:

       المرحلة الأولي وهي الثقافة الدينية الخالصة مع علوم اللغة وهي مرحلة ما قبل دار العلوم ،ثم تنوعت مصادر ثقافته فشملت كل أنواع الثقافة سواء تاريخية أو اجتماعية أو غيرها من أنواع الثقافات .

وتمثلت ثقافته الدينية في القرآن وعلومه والسنة وعلومها ، بالإضافة إلي علوم اللغة وآدابها وعلوم التصوف والتاريخ والسير والمغازي ، وكان في كل هذه العلوم لا يأخذها من جانب واحد ولكن كان يقرأ للمتخلفين في وجهات النظر لا سيما في المسائل الخلافية ..

 وقد كتب البنا بخط يده قصاصة من الورق موضوعة في طيات كتاب " هذه هي الأغلال " ومن بين ما كتبه بخط يده فيها " ويل للذين ينظرون إلي الأشياء من جانب واحد ، ويل وويل للإنسان منهم ، ولن تجد علي الأرض أشد منهم ظلمًا ولا أسقم فهمًا " .

      مرحلة الثقافة الدينية : كانت بداية حبه للاطلاع وكثرة المطالعة في الكتب الدينية عن طريق الشيخ زهران ، فقد كان يصطحبه معه إلي مكتبته التي فيها الكثير من المؤلفات لقراءة بعض المسائل ومراجعتها ، وكثيراً ما كان يحضر لقاءات الشيخ مع أهل العلم الذين يتناولون المسائل المختلفة بالبحث والنظر والنقاش .

     كما كان لوالد البنا أثر كبير في ثقافته حيث كان يشجعه علي القراءة في مكتبته الخاصة ويهديه بعض الكتب مثل ( الأنوار المحمدية للنبهاني ) و ( مختصر المواهب اللدنية للقسطلاني ) و ( نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للشيخ الخضري ) ، وغيرها من الكتب بل إن والده ساعده علي تكوين مكتبة خاصة به وهو في المرحلة الإعدادية ،

 *   ومن شغف البنا بالقراءة كان يترقب الشيخ حسن الكتبي يوم السوق بفارغ الصبر ليستأجر كتبًا بالأسبوع لقاء مليمات ثم يردها ليأخذ غيرها   ويحب قصص الشجاعة والبطولة والاستمساك بالدين والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق .

وكان لرعاية أساتذته له في مدرسة المعلمين ومناقشته المستمرة ، وحسن توجيههم له الأثر في دفعه إلي القراءة والتحصيل خارج نطاق الدراسة ، فحفظ خارج مناهج الدراسة كثيراً من المتون في العلوم المختلفة ومن أمثلتها :
 (ملحمة الإعراب للحريري) و(ألفية ابن مالك ) و( الياقوتة في المصطلح) و(الجوهرة في التوحيد) و(الرجبية في الميراث) وبعض متن (الغاية والتقريب لأبي شجاع في فقه الشافعية) وبعض منطوق (ابن عامر في مذهب المالكية) ...

    وكانت لعبارة والده المأثورة " من حفظ المتون حاز الفنون " كذلك الأثر الطيب في حفظه هذه المتون حتى أنه حاول حفظ متن (الشاطبية في القراءات) مع جهله التام بمصطلحاتها.

   وكان لعلاقة البنا بالطريقة الحصافية أثر في ثقافته حيث درس كتب الصوفية علي يد بعض المشايخ وكذلك درس الإحياء علي يد الشيخ حسن خزبك وكذلك سمع أحوال الأولياء والياقوت وغيرها .

وكان لهذه الثقافات المتنوعة الأثر في نفس البنا حتى أنه كتب بعض الشعر الوطني ، وقد جمع ديوانًا كبيراً من هذا الشعر الوطني ..
                                        كما ألف بعض المؤلفات في الفقه علي المذاهب الأربعة .



لقد كان تعرف حسن البنا علي الطريقة الحصافية وانضمامه لها من عناية الله به ، فقد تعرف عليها وهو بين الثانية عشر من عمره في فترة البلوغ وفترة المراهقة فعصمه الانضمام من الانغماس في اللهو مثل أقرانه وكذلك عصمه من الانحراف ، وربت فيه مراقبة الله والخوف من عذاب الله والرغبة في جنته ، وكذلك وفرت له سبل تفريغ طاقته الروحية والجسمية بطريقة صحيحة . وقد وجد الإمام في بعض من سبقه في الطريقة أمثلة للتعبد الصحيح وكذلك بعض أهل العلم . وقد استفاد البنا من هذه الطريقة كثيراً .
فقد علمه شيخ الطريقة وابن مؤسسها الشيخ عبد الوهاب الحصافي البعد عن الجدل وعدم صرف الأوقات إلا في طاعة الله ، وعدم شغل أوقات الأتباع إلا بالمفيد النافع ، وقد كان الشيخ مثالا في ذلك وغيرها من الخصال النافعة " .
الداعية منذ الصغر :

v    جمعية الأخلاق الأدبية

الإمام البنا فى إحدى خطبة "حديث الثلاثاء"
" الدعوة إلي الله في حقيقتها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وتعاون علي أداء هذا الواجب ،

وكان حسن البنا منذ صغره داعيًا إلي الله آمراً بالمعروف وناهيا عن المنكر ، يتعاون علي فعل الخيرات مع أقرانه وإخوانه ، فعندما دخل المدرسة الإعدادية شارك في جمعية الأخلاق الأدبية وبرز فيها ، وأصبح رئيسا لمجلس إدارة هذه الجمعية التي كانت لائحتها تدعو إلي مكارم الأخلاق وتغرم من يخطئ في حق إخوانه مبلغا من المال ينفق في أوجه الخير ،

ويذكر البنا ذكرياته مع هذه الجمعية فيقول في كتاب مذكرات الدعوة والداعية :
" وكانت لائحتها الداخلية تتلخص في أن من شتم أخاه غرم مليما واحدا ، ومن شتم الوالد غرم مليمين ، ومن شتم الأم غرم قرشا ، ومن سب الدين غرم قرشين ومن تشاجر مع آخر غرم مثل ذلك ، وتضاعف هذه العقوبة لأعضاء مجلس الإدارة ورئيسه ، ومن توقف عن التنفيذ قاطعه زملاءه حتى ينفذ ، وما يتجمع من هذه الغرامات ينفق في وجوه من البر والخير ، وعلي هؤلاء الأعضاء جميعًا أن يتواصوا فيما بينهم بالتمسك بالدين وأداء الصلاة في أوقاتها ، والحرص علي طاعة الله والوالدين ومن هم أكبر سنا أو مقاما .

·        ولم يكن نطاق دعوة البنا الأمر بالمعروف ونهيه عن المنكر لتحده جدران المدرسة الإعدادية

 -  فعندما مر علي شاطئ النيل ولاحظ أن أحد أصحاب السفن المنشأة قد علق علي ساريتها تمثالا خشبيا عاريا علي صورة تتنافي مع الآداب ، وبخاصة أن هذا الجزء من الشاطئ يتردد عليه السيدات والفتيات يستقين منه الماء ، فماذا يفعل ؟

يقول الإمام الشهيد: " فهالني ما رأيت وذهبت فورا إلي ضابط النقطة – ولم تكن المحمودية قد صارت مركزا إداريا – وقصصت عليه القصص مستنكرا هذا المنظر ، وقد أكبر الرجل هذه الغيرة وقام معي من فوره حيث هدد صاحب السفينة وأمره أن ينزل هذا التمثال في الحال وقد كان " .

·          وقد دافع عن حقه وحق زملائه في الصلاة بالمسجد المجاور للمدرسة حتى كان له ما أراد وذلك أن إمام المسجد خشي من الإسراف في الماء والبلي علي الحصر ، فانتظر التلاميذ حتى انتهوا من صلاتهم ثم فرقهم بالقوة وتوعدهم وأنذرهم من تكرار الصلاة في المسجد ، فماذا يفعل هذا الصبي الصغير حال هذا الموقف ؟

  -   يقول الإمام: " كتبت إليه خطابا ، بعثت به إليه في البريد مغرما واعتبرت أن غرامة قرش صاغ كافية هذا القصاص ، وقد عرف رحمه الله ممن جاءته الضربة ، وقابل الوالد شاكيا معاتبا ، فأوصاه بالتلاميذ خيرا وكانت له معنا بعد ذلك مواقف طيبة عاملنا فيه معاملة حسنة ، واشترط علينا أن نملأ صهريج المسجد بالماء قبل انصرافنا ، وأن نعاونه في جمع التبرعات للحصر إذا ما أدركها البلل وقد أعطيناه ما شرط " .

v    جمعية منع المحرمات

   فأنشأ وأصحابه جمعية منع المحرمات وكانت جمعية تأمر بالمعروف وتنهي الناس عن المنكر عن طريق إرسال خطابات إلي كل من يعرف عنه أنه ارتكب منكرا ، ويقول عنها الإمام البنا في مذكرات الدعوة والداعية :

"   وكان اشتراك العضو فيها يتراوح بين خمسة مليمات وعشر أسبوعيا ، وكانت أعمالها موزعة علي أعضائها ، فمنهم من كانت مهنته تحضير النصوص وصيغ الخطابات ، وآخر مهنته كتابة هذه الخطابات بالحبر " الزفر " وثالث مهنته طبعها ،

    فمن أفطر في رمضان ورآه أحد الأعضاء بلغ عنه فوصله خطاب فيه النهي الشديد عن هذا المنكر ، ومن قصر في صلاته ولم يخشع فيها ولم يطمئن وصله خطاب كذلك ، ومن تحلي بالذهب وصله خطاب فيه حرمة التحلي بالذهب شرعا ، وأيما امرأة شاهدها أحد الأعضاء تلطم وجهها في مأتم أو تدعو بدعوي الجاهلية وصل زوجها أو وليها خطاب.

وكان الناس يظنون أن هذا من عمل أستاذنا الشيخ زهران رحمه الله ويقابلونه ويلومونه لوما شديدا ويطلبون إليه أن يتحدث إليهم فيما يريد بدلا من هذه الكتابة…والرجل يتنصل من ذلك ويدفع عن نفسه .
 حتى وصله ذات يوم خطاب من الجمعية يلفت نظره إلي أنه صلي فريضة الظهر بين السواري وذلك مكروه وهو عالم البلد ، فيجب عليه أن يبتعد عن المكروهات ليبتعد غيره من العوام عن المحرمات

وأذكر أن الشيخ رحمه الله أنه دعاني حينذاك – وكنت أقرأ له وأنا ابتسم وهو يتساءل عن هؤلاء الذين كتبوا له ووجد أن الحق معهم وأنهيت ذلك إلي أعضاء الجمعية فكان سرورهم عظيما .

*   واستمرت الجمعية تؤدي عملها أكثر من ستة أشهر وهي مثار عجب الناس ودهشتهم ، حتى اكتشف أمرهم علي يد صاحب قهوة استدعي راقصة فوصله خطاب من الجمعية وكانت الخطابات لا ترسل بالبريد اقتصادا في النفقات ، وإنما يحملها أحد الأعضاء ويضعها في مكان يلفت نظر صاحبها إليه فيستلمها ولا يري من جاء بها ، ولكن المعلم كان يقظان فشعر بحركة حامل الخطاب فقبض عليه بخطابه وعاتبه عتابا شديدا أمام من في القهوة ، وعرفت الجمعية عن هذا الجمعية عن هذا الطريق فرأي أعضاؤها أن يخففوا من نشاطهم ويعملوا بأسلوب آخر لمنع المحرمات .


     - و كان يذهب إلي المدرسة بالعمامة ذات العدبة ونعل كنعل الإحرام في الحج ورداء أبيض فوق الجلباب وذلك لأنها السنة ، ويدافع عن ذلك الزى وتلك الهيئة باعتبارها سنة الرسول صلي الله عليه وسلم ، ويحكي البنا ذلك في مذكراته فيقول :

" لفت زيي نظر مدير التعليم إذ كنت ألبس عمامة ذات عدبة ونعلا كنعل الإحرام في الحج ورداء أبيض فوق الجلباب فسألني : لماذا ألبس هذا الزى ؟ فقلت : إنها السنة فقال : وهل عملت كل السنن ولم يبق إلا سنة الزى ؟ فقلت لا ونحن مقصرون كل التقصير ، ولكن ما نستطيع أن نفعله نفعله ، قال : وبهذا الشكل خرجت علي النظام المدرسي .

فقلت له : ولم يا سيدي ؟ إن النظام المدرسي مواظبة ... وأنا لم أغب عن الدروس أبدا ، وسلوك وأخلاق .. وأساتذتي راضون عني والحمد لله ، وعلم ودراسة .. وأنا أول فرقتي . ففيم الخروج علي النظام المدرسي إذاً ؟ فقال : ولكنك إذا تخرجت وأصررت علي هذا الزى فسوف لا يسمح مجلس المديرية بتعيينك مدرسا حتى لا يستغرب التلاميذ علي هذا المظهر .

   فقلت علي كل حال هذا لم يجيء وقته بعد ، وحين يجيء وقته يكون للمجلس الحرية ويكون لي الحرية كذلك ، والأرزاق بيد الله وليست بيد المجلس ولا الوزارة " .


v    جمعية الحصافية الخيرية :

كان ذلك إبان المرحلة الإعدادية

    وكانت مهمتها متركزة : نشر الدعوة إلي الأخلاق الفاضلة ، ومقاومة الإرسالية الإنجيلية التبشيرية التي هبطت إلي البلد واستقرت فيها ، وكان قوامها ثلاث فتيات رأسهن مسز (وايت) ، وأخذت تبشر بالمسيحية في ظل التطبيب وتعليم التطريز وإيواء الصبية من بنين وبنات ، وقد كافحت الجمعية في سبيل رسالتها مكافحة مشكورة وخلفتها في هذا الكفاح جمعية " الإخوان المسلمين " بعد ذلك .

v    محاربة الفساد في القاهرة :

   ولما انتقل البنا إلي القاهرة عند دخوله دار العلوم وشاهد فيها مظاهر التحلل والفساد ، مما لا عهد له به في حياة الريف ، وقرأ في الصحف كثيرا مما ينافي تعاليم الإسلام ورأي جهل العامة بأحكام الدين ، ففكر في تكوين دعاة إسلاميين من زملائه في الأزهر ودار العلوم للدعوة إلي الله في المساجد والمقاهي والمجتمعات العامة ، وانطلق يدعو في المقاهي ليكون قدوة عملية لزملائه ويحكي ... فيقول :

ففكرت في أن أدعو إلي تكوين فئة من الطلاب الأزهريين وطلاب دار العلوم للتدريب علي الوعظ والإرشاد في المساجد ثم في المقاهي والمجتمعات العامة ، ثم تكون منهم بعد ذلك جماعة تنتشر في القرى والريف والمدن الهامة لنشر الدعوة الإسلامية.

·       وجاء الدور العملي بعد هذا الاستعداد العلمي فعرضت عليهم أن نخرج للوعظ في المقاهي ، فاستغربوا ذلك وعجبوا منه وقالوا :

إن أصحاب المقاهي لا يسمحون بذلك ويعارضون فيه لأنه يعطل أشغالهم ، وإن جمهور الجالسين علي هذه المقاهي هم قوم منصرفون إلي ما هم فيه وليس أثقل عليهم من الوعظ ، فكيف نتحدث في الدين والأخلاق لقوم لا يفكرون إلا في هذا اللهو الذي انصرفوا إليه ؟ وكنت أخالفهم في هذه النظرة وأعتقد أن الجمهور أكثر استعدادا لسماع العظات من أي جمهور آخر حتى جمهور المسجد نفسه ، لأن هذا شيء طريف وجديد عليه والعبرة بحسن اختيار الموضوع ، فلا نتعرض لما يجرح شعورهم ، وبطريقة العرض فتعرض بأسلوب شائق جذاب وبالوقت فلا نطيل عليهم القول .

·       فبدأت التجربة :

ولقد كان شعور السامعين عجيبا ، وكانوا ينصتون في إصغاء ويستمعون في شوق ، وكان أصحاب المقاهي ينظرون بغرابة أول القول ثم يطلبون المزيد منه بعد ذلك ، وكان بعض هؤلاء يقسم بعد الخطبة أننا لابد أن نشرب شيئا أو نطلب طلبات ، فكنا نعتذر لهم بضيق الوقت ، وبأننا نذرنا هذا الوقت لله فلا نريد أن نضيعه في شيء ، وكان هذا المعني يؤثر في أنفسهم كثيرا.

v    دعوة العلماء لمهاجمة الفساد في المجتمع :

    -  وبعد الحرب العالمية الأولي وإلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا انتشر تيار الإباحية والإلحاد حتى أصبح هو التيار السائد والمهيمن علي الجامعة وعلي الحياة الأدبية والاجتماعية ، لا سيما في الطبقات الراقية . وكان لهذه الموجة رد فعل قوى في الأزهر والأوساط المعنية بالشئون الإسلامية ولكن رد هذا الفعل لم يزود عن الكتابة في بعض الصحف والمجلات واللقاءات التي لم تشف غليلا ولم ترد كيدا .
                                                                                                                                                
وفكر الإمام الشهيد – وهو لا يزال طالبا في دار العلوم في عمل إيجابي يرد به الكيد ، فقام بزيارة الشيخ يوسف الدجوي وكان من المشايخ العلماء المعدودين في ذلك الوقت ، وله صلات بأهل العلم والوجهاء .. ولكن الشيخ الدجوي نصحه بأنه لا فائدة من كل ذلك وحسب الإنسان أن يعمل لنفسه وأن ينجو بها من هذا البلاء وتمثل بهذا البيت من الشعر

ومـا أبـالـي إذا نفـسـي تطـاوعـني      علي النـجـاة بمـن قـد مـات أو هـلكا

·       أوصاه أن يعمل بقدر استطاعته وأن يدع النتائج علي الله ، ولم يعجب البنا هذا الجواب فقال للشيخ الدجوي :
-           
" إنني أخالفك يا سيدي كل المخالفة في هذا الذي تقول ، وأعتقد أن هذا الأمر لا يعدو أن يكون ضعفًا فقط وقعودا عن العمل وهروبا من التبعات ، من أي شيء تخافون ؟ من الحكومة أو الأزهر ؟

يكفيكم معاشكم واقعدوا في بيوتكم واعملوا للإسلام ، فالشعب معكم في الحقيقة لو واجهتموه ، لأنه شعب مسلم وقد عرفته في المقاهي وفي المساجد وفي الشوارع ، فرأيته يفيض إيمانا ، ولكن قوة مهملة من هؤلاء الملحدين والإباحيين وجرائدهم ومجلاتهم لا قيام لها إلا في غفلتكم ، ولو تنبهتم لدخلوا جحورهم .

 يا أستاذ إن لم تريدوا أن تعملوا لله فاعملوا للدنيا وللرغيف الذي تأكلون ، ولا ما تنفقون ، فدافعوا في هذه الأمة ضاع الأزهر وضاع العلماء فلا تجدون ما تأكلون ، ولا ما تنفقون ، فدافعوا عن كيانكم إن لم تدافعوا عن كيان الإسلام ، واعملوا للدنيا إن لم تريدوا أن تعملوا للآخرة وإلا فقد ضاعت دنياكم وآخرتكم علي السواء .

·       وانقسم الناس بعد هذا الكلام إلي فريقين :
-       فريق يتهم البنا بالإساءة إلي الشيخ وإلي علماء الأزهر ، وبذلك فقد أساء إلي الإسلام
-       وفريق آخر يري أن البنا لم يرد إلا أن يجتمع العلماء لنصرة الإسلام وأن الناس ستكون من خلفهم ...

  وأصر البنا على الشيخ الدجوي وعاوده فما كان من الشيخ الدجوي إلا أن أعطاه بعض النقل ووعده بالتفكير في الأمر ، فرفض البنا هذا التفكير وقال له وللعلماء من حوله :

" سبحان الله يا سيدي إن الأمر لا يحتمل تفكيرا ، ولكن يتطلب عملاً ولو كانت رغبتي في هذه النقل وأمثالها لاستطعت أن اشتري بقرش وأظل في منزلي ولا أتكلف مشقة زيارتكم ، يا سيدي إن الإسلام يحارب هذه الحرب العنيفة القاسية ، ورجاله وحماته وأئمة المسلمين يقضون الأوقات غارقين في هذا النعيم ! أتظنون أن الله يحاسبكم علي هذا الذي تصنعون ؟
                                                                                                                                                                 
إن كنتم تعلمون للإسلام أئمة غيركم وحماة غيركم فدلوني عليهم لأذهب إليهم " فوجم الجميع وفاض عين الشيخ وبعض الحاضرين بالدمع، ثم سأل الشيخ الإمام البنا وقال له :
وماذا أفعل ؟ قال له الإمام البنا : أريد أن تحصر أسماء من تتوسم فيهم الغيرة علي الدين ليفكروا فيما يجب عمله ، يصدرون مجلة يردون فيها علي دعاة الإلحاد أو يؤلفون جمعيات يأوي إليها الشباب وينشطون حركة الوعظ والإرشاد..

 ووافق الشيخ وتم كتابة أسماء العديد من العلماء والوجهاء حتى تكونت نواة طيبة من هؤلاء العلماء كان من نتيجتها ظهور مجلة الفتح الإسلامية التي رأس تحريرها الشيخ عبد الباقي سرور ، وكان مدير تحريرها السيد محب الدين الخطيب ثم آل تحريرها وإرادتها إليه ، وكذلك كان من ثمرتها جمعية الشبان المسلمين .

البنا والحركة الوطنية
v    البنا فى إحدى المظاهرات

" علي الرغم من انضمام البنا وهو في سن صغيرة إلي الصوفية وانشغاله بالأوراد والصلاة وزيارة الأولياء ، إلا أن ذلك لم يمنعه وهو تلميذ في الإعدادية ، وفي سن الثالثة عشر من المشاركة في الحركة الوطنية وقيادة زملائه في المظاهرات والإضرابات التي كانت تنظم في المدرسة ، بل يكتب شعرا يرثي فيه الزعيم الوطني محمد فريد ، ويهاجم في إصرار لجنة "ملنر" ولقد جمع من هذه البواكير ديوانًا كبيرا .

يقول الإمام البنا : " ولازلت أذكر يوم دخل علينا أستاذنا الشيخ محمد خلف نوح – المدرس بالمعارف بالإسكندرية – والدموع تترقرق في عينيه فسألناه الخبر فقال :
" مات محمد فريد بك " وأخذ يحدثنا عن سيرته وكفاحه في سبيل الوطن حتى أبكانا جميعًا وأوحت لي هذه الذكري ببعض الأبيات لازلت أحفظ مطلعها وشطراً آخر :

أفــريد نم بالأمـن والإيـمـان      أفــريد لا تـجـزع عـلـي الأوطـان

و رغم اشتغاله بالتصوف يعتقد أن الخدمة الوطنية جهاد مفروض لا مناص منه ، وكان للبنا دور بارز مع الطلاب في قيادة الإضرابات حيث كان المجموعة القيادية

-          فكان مما قاله البنا لضابط شرطة   جاء ليقبض عليه وزملائه في بعض المظاهرات :

" إن واجبه الوطني يفرض عليه أن يكون معنا ، لا أن يعطل عملنا ويقبض علينا ، ولا أدري كيف كانت النتيجة . إنه استجاب لهذا القول فعلا ، فخرج وصرف عساكره وانصرف معهم بعد أن طمأننا " .

جوانب من شخصية الإمام البنا

تمتع الإمام البنا بصفات شخصية قلما تجتمع في إنسان واحد ، وقد أهلته هذه الصفات الشخصية والمواهب التي حباه الله بها لأن يصبح الداعي الأول في القرن العشرين ، ومؤسسًا وقائداً لأكبر حركة إسلامية علي مستوى العالم ، وهي حركة الإخوان المسلمين ، فقد حباه الله بجسد قوي يتحمل الشدائد والمصاعب فضلا عن ذاكرة حديدية تحتفظ بالمعلومات والأسماء بطريقة عجيبة ، وسرعة بديهية وسعة أفق ، وقدرة علي تحليل الأحداث واستخلاص النتائج التي قلما تخطيء ..
 فقد كان رحمه الله عليمًا بعصره فقيهًا في حركته ذا حكمة ودهاء ، وكان رحمه الله زاهداً في العيش مع القدرة علي الكسب ، متواضعًا في غير ذلة معتزاً بنفسه وبدعوته من غير كبر ، يحب إخوانه ويألفهم ويألفونه .

وكان الإمام البنا يقدم دعوته علي غيرها من الأشياء ، يقدمها علي راحته ويقدمها علي أولاده ، فقد عاش بالدعوة وللدعوة ، وقد امتلك الإمام البنا قوة روحية هائلة وإرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ، وعزيمة ماضية لا تنثني .

-   يقول الأستاذ محمد عبد الحميد وهو من الرعيل الأول حيث عاش حركته الدائبة في الدعوة إلي الله:
" إن من أبرز سمات شخصية الإمام الشهيد روح " الحركة " في طبيعته وطاقة العمل الضخمة في أعصابه ودمه .
...
كان شخصية متحركة لا تقف ولا تسكن ، كأنه فلك إنساني يدور مع الكواكب يعمل ويوجه ويعد وينظم وينتج في لحظات ما يقصر عنه غيره في شهور
...
تبهرك أعصاب فذة كأنها كهربائية ، نسيج وحده لا يخضع لمؤثرات المادة وقوانينها في الطاقات والمواقيت ، سهر دائم وفكر عامل ثاقب وسلسلة لا تنقطع حلقاتها في الفكر والعلم والإعداد والتوجيه ، وأسفار حتى تغلغل في أعماق الكفور والنجوع وبين العشائر والقبائل ، فكان الزعيم الحق الذي جلس علي التراب وخالط لأول مرة طبقات الشعب في حياتهم وأحس آلامهم ومشاكلهم !! .
...
كانت همته فوق قدرته ، وقدرته فوق التعب والزمن ، يتسامي فوق الطاقة البشرية ، وأعماله الضخمة الموفقة أشبه بكرامات الأولياء منها بجهود العباقرة ، عزيمة تتضاءل دونها العزائم ، وهمة لا تبلغها العصبة أولو القوة إلا بروح من الله ورضوان !!
فحق لنا في هذا الجزء من هذه الصفات نلقي عليها الضوء من خلال بعض جوانب شخصيته وهي جديرة حقاً بالتأمل والدراسة...

الجانب العقائدي

كان الإمام الشهيد حسن البنا رجل العقيدة بحق ، وقد صور الإمام الشهيد حسن البنا في كتابه " العقيدة وشخصية رجل العقيدة" حال رجل العقيدة وما أخاله إلا أنه كان يتحدث عن نفسه في وصفه لشخصية رجل العقيدة ، ولن نحصي كل مفردات الجانب العقائدي في حياة الإمام الشهيد ، لكننا سنستعرض بعض منها :

        1– التوكل علي الله :

حين رغب الإخوان في شراء قصر آل " أبو الحسن " وهو المبني الضخم المقابل لدار المركز العام للإخوان في ميدان الحلمية الجديدة ، لم يكن في خزانة الجماعة غير مائتي جنيه فقط بينما المبلغ المطلوب أربعة عشر ألفًا من الجنيهات ، وحين طلب أصحاب القصر مبلغ خمسمائة جنيه عربونًا علي أن يتم سداد باقي المبلغ بعد كتابة العقد بشهر .

  - هنا هتف حسن البنا قائلاً : شيء عظيم ، اشترينا القصر إن شاء الله ، وهو يعلم أن الخزانة ليس بها إلا مائتا جنيه ، لكنه متوكل علي الله ويوقن أن الله سيجعل له من أمره يسراً ، وما دام القصد إرضاء الله تعالي ، والغاية إعلاء كلمة الله فلن يخيب هذه المساعي الحميدة .

فمن أين لنا بباقي المبلغ ؟ فيرد عليه الإمام البنا : توكل علي الله . فتسري هذه الكلمات في وجدان الرجل ولا يجد وسيلة لتدبير بقية العربون إلا أن يبيع " حلي زوجته " ويستكمل باقي العربون كدين عليه وأحضر قيمة العربون .

وبينما الإخوان يفكرون في تدبير ثمن شراء القصر إذا بأبواب الخير تنفتح عليهم ، فيأتي أحد المحبين لزيارة الإمام البنا فيخبره بأن الإخوان عقدوا العزم علي شراء القصر المقابل ، فيسأل : ولماذا لم تنتقلوا إليه ؟ فيجيبه بأنهم دفعوا العربون فقط وأن تسليم القصر يكون بعد دفع مبلغ ألف جنيه ، فإذا بالرجل يعلن عن تبرعه بمبلغ خمسمائة جنيه في الحال حتى يتمكن الإخوان من استلام القصر والانتقال إليه .

وفي أول حديث ثلاثاء أعلن عن شراء القصر المقابل للمركز العام ويُفتح باب التبرع لهذا الغرض ، وطلب الإمام أن يساهم كل أخ مستطيع في عملية الشراء وقال : لا أريد أن أحرم أحداً من الإخوان المسلمين في أنحاء القطر أن يكون له حجر أو لبنة في المركز ، وفي أقل من شهر استكمل المبلغ وزادت التبرعات عن المبلغ المطلوب . فسارع الإمام البنا وأعلن غلق باب التبرع لحساب الشراء .

·        وهكذا صار للإخوان مركز عام ضخم يستوعب الكثير من أوجه نشاطهم ، خاصة حديث الثلاثاء الذي أصبح مقياسًا صادقًا ومعبراً بوضوح عن قوة الإخوان في المجتمع المصري .

فمن مبلغ صغير في الخزانة محبوس أصبح للجماعة منارة عظمي تفد الوفود والجموع إليها .

2 – اليقين في نصر الله :

... ظهر ذلك في خطته التي كان يلح فيها ويركز علي بعث الأمل ، وبث الثقة في نفوس إخوانه ضاربًا الأمثلة الحية من سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم كموقفه من غزوة الأحزاب .

 فعندما اعتقل بعد مقتل أحمد ماهر ازداد يقينًا في نصر الدعوة وكتب إلي إخوانه من خلف القضبان في 16/3/1363هـ يقول : إن ما نلقاه الآن ليس جديداً علينا ولا هو من المفاجآت في طريق دعوتنا.

فكذلك كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم من الأنبياء والصديقين والشهداء ، وقد حقق لنا القوم بهذا ما كنا نتمثل به من قبل : " إن سجني خلوة وقتلي شهادة وتغريبي سياحة " ، وقد نقلونا بهذه المحنة نقلة واسعة إلي الأمام والحمد لله ، ووقفوا بنا علي طريق معبد من طرق الدعوة ، وهذا أول الخير وأنا به جد متفائل وأعتقد أن وراء ذلك الفتح العظيم إن شاء الله .

3 – يرضي بالقضاء والقدر :

كان الإمام الشهيد رضوان الله عليه يؤمن بالقضاء والقدر إيمانًا راسخاً ، لا عن طريق الدراسة والتعليم فقط ؛ وإليك قوله في هذا:

إن إيماني بالقضاء والقدر ، والرزق والأجل ، ليس نتيجة الدراسة والتسليم والإيمان بالنصوص فقط ، ولكنه نتيجة التجارب والمشاهدة ، فقد تعرضت للموت في صغرى أكثر من مرة وبصورة مختلفة ، وكانت نجاتي بأعجوبة ، فوجئت أنا وأخي عبد الرحمن ونحن صبيان نلعب في " الحارة " بانقضاض بيت كامل فوق رؤوسنا ، ولم ينجنا إلا استناد السقف علي " درابزين " السلم فأصبحنا في مأمن بالفراغ الناشئ عن ذلك حتى رفعت الأنقاض وخرجنا سالمين " .

   - وقذفت بنفسي في إحدى الترع الكبيرة في أيام الفيضان ، والماء علي أشده فراراً من مطاردة كلب عقور ، فانتشلتني سيدة كريمة، لا أزال أذكر منظرها، وقد خلعت في سرعة البرق جلبابها وتعممت به، وقذفت بنفسها إلي الماء، وبعض الرجال وقوف ينظرون، ولا ينجدون، مما جعلني أؤمن بأن الشهامة والنجدة ليستا وقفًا علي الرجال .

وتقدمت لإطفاء النار في منزل اندلعت ألسنتها فيما علي سطحه من وقود علي عادة الريف ، فامتدت النار إلي ثيابي وأطرافي ، ولكن فرقة الإطفاء كانت قد أقبلت ، وقدر رجالها هذا الموقف من ناشئ صغير ، فوجهوا إلي خراطيمهم ، ونجوت بذلك من احتراق محقق .

·        وكان رضي الله عنه ينزل عليه القضاء ، فيرضي به ، بل ويشكر عليه كأنه برد وسلام علي قلبه .

   لدرجة أنه لا يغير من برنامجه شيئًا ، ويشهد بذلك موقفه من موت ابنه ، فيقول أنور الجندي : كان قد دعا إلي " كتيبة تبيت بالمركز العام ، يتحدث معهم إلي هزيع الليل ، ثم ينامون ساعة أو ساعتين ، ثم يستيقظون لصلاة الفجر.

   كان قد ذهب إلي المنزل فوجد ابنه في حالة الخطر ، وعلي شفا الموت ، وكان موعد الكتيبة قد اقترب فانصرف إليها ، وبينما هو يتحدث معهم في بشاشته المعهودة ، جاء من يسرٌ إليه أن ابنه توفي ، فما زاد علي أن قال له بضع كلمات تتعلق بغسله وتكفينه .. وواصل حديثه مع أعضاء الكتيبة ونام معهم ، وفي الصباح أمر بمن يذهب به إلي القبر .

الجانب العبادي
كان الإمام الشهيد حريصًا علي أداء العبادات علي أكمل وجه ، فكان حريصًا علي أداء الصلاة في وقتها ، وقد نبه إخوانه إلي ذلك فقال : " قم إلي الصلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف " وكان حريصًا علي قيام الليل مهما اشتد به النصب مع حب وشغف بالقرآن لا ينتهي .

·       صلاته:

   - يقول الأستاذ محمود عبد الحليم: " لقد كنت في أيام اتصالي بالإخوان المسلمين حريصًا علي مراقبة كل ما يدور في مركزهم العام ، لا سيما ما يصدر من مرشدهم من حديث وأعمال .
وقد لفت نظري أن صلاة المرشد وكان دائمًا هو الإمام لا تكاد تختلف عن صلاة كثير من الناس ، فهي وإن كانت صلاة خاشعة مطمئنة ؛ لكن رائيها لا يمكن أن يصفها بأنها صلاة مطولة كتلك التي تمارس في مساجد بعض الجمعيات ، أما في الصلوات الجهرية فكان له فيها رحمه الله أسلوب آخر .. كان يطيل فيها من قراءة القرآن ..
                                                                                              
   ولكن هذه الإطالة لم تكن مجرد إطالة ولا القراءة مجرد قراءة ، وإنما كانت قراءة هادفة ، كانت قراءة من مواضع مختارة .. يتناول في كل صلاة منها معالجة موضوع معين من المواضيع الحساسة التي تمس النفوس وتعالج مشاكل المجتمع ، ففي صلاة يستعرض علي المأمومين أصناف الناس ، وفي صلاة أخري يستعرض طبائع النفوس ، وفي ثالثة يعرض صورة لغرور السلطة وعواقبه ، وفي رابعة يستعرض مواقف الحق الأعزل من الباطل المسلح ، وفي خامسة يستعرض دلائل قدرة الله في مخلوقاته ، وهكذا من المواضيع التي يخرج المأمومون من كل منها بتوجيهات محددة وتعاليم معينة .


·       الرجل القرآني :

   القرآن الكريم نور يضيء جنبات النفوس ويتسرب إلي أعماق القلوب فيهزها ويضيئها ولكن هذا النور لا يضيء إلا النفوس التي فتحت له مغاليقها واستدعته إلي دروبها ، لتستضيء بنوره وتتلألأ بأسراره العجيبة.

 ونحسب الإمام البنا كان واحداً من القرآنيين الذين شغلهم القرآن الكريم تلاوة وحفظاً وفهمًا وعملاً ، فكانت حياتهم كلها له . وهذه بعض المواقف المشهودة للرجل رحمه الله .

-  يقول عنه الكاتب الأمريكي " روبير جاكسون " :لقد حمل البنا المصحف ووقف به في طريق رجال الفكر الحديث ، ثم يقول عنه : وكان الرجل القرآني يؤمن بأن الإسلام قوة نفسية في ضمير الشرق وأنها تستطيع أن تمده بالحيوية التي تمكن له في الأرض .


 
   -  وكان رحمه الله ذا فهم قرآني راق نابع من قلب داعية ، ففي ذلك يقول محمد عبد الحميد أحمد :" من الذكريات الجميلة التي لا تزال راسخة في أعماق نفسي ما فتح الله علي إمامنا الشهيد خلال محاضرات يوم الخميس من كل أسبوع لقسم الطلاب بالمركز العام ، وكان موضوع المحاضرة " دراسات قرآنية " تناول فيها موضوع الحروف المقطعة في أوائل بعض السور من القرآن الكريم مثل ( ألم ، ق ، ص .. الخ ) وتناول أراء المفسرين في دلالتها وحكمتها...
                                                                                                                                                                                 
ثم هداه الله وكشف في هذه الحروف إذا جمعت وحذف المكرر منها تكون عبارة تدل علي أن هذه الحروف لها حكمة ربانية وسر إلهي ، وهذه العبارة هي " نص قاطع حكيم له سر " وقد عرضنا هذا التصوير علي الشيخ الصالح " كامل حسن " وكيل كلية الشريعة سابقًا رحمه الله فكان جوابه إن القرآن كما وصف الرسول عليه الصلاة والسلام لا تنتهي عجائبه ، وهذا فتح من الله يؤتيه الله من يشاء من عباده الصالحين ، والإمام البنا رجل قرآني امتزج القرآن بدمه ولحمه فلا عجب أن يهديه بتأمله وتدبره إلي هذه الملاحظة البديعة حقاً .

 - ويصفه الشيخ الغزالي فيقول: " إن الله جمع في شخصه مواهب تفرقت في أناس كثيرون وقد استفاد من تجارب من سبقوه من القادة ، وكان يدمن قراءة القرآن ويتلوه بصوت رخيم ويحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي ، ويفهم أصعب المعاني ويعرضها علي الجماهير بأسلوب سهل قريب .
وقد درس السنة والفقه ففهم منهج السلف والخلف وأحاط بالتاريخ الإسلامي واطلع علي منهج محمد عبده ، ورشيد رضا وتعمق في حاضر العالم ومؤامرات الاحتلال الأجنبي".

الجانب البدني:

   وعندما أصبح مرشداً للإخوان كان يقطع القطر المصري بمحافظاته المختلفة من شرقه إلي غربه ومن شماله إلي جنوبه في أيام معدودات ، يزور المراكز والقرى ويزور شعب الإخوان ويحاضر فيها ويوجه إخوانه إلي الخير ولا تسل كيف كانت وسائل المواصلات في ذلك الوقت ، ومع صعوبتها فقد كان حسن البنا لا يركب إلا قطار الدرجة الثالثة في معظم رحلاته ...
ومن ذلك نستطيع أن نصف الإمام الشهيد بأنه " رحالة في سبيل الله أبداً " حيث إن الداعية الحق هو من يقسم جهده ووقته بين أبناء دعوته ، فلكل واحد منهم نصيب ، البعيد منهم كالقريب عنده ، القاصي منهم لا يقل عن الداني ، وقد اعتاد الناس في شهور الصيف أن يفروا من حرارة جو الصعيد إلي حيث سواحل مصر الشمالية يتبردون برطيب جوها ويسعدون بشذا زرعها ومائها ، وكان الإمام البنا رحمه الله علي خلاف ذلك .

كان يقطع الوجه القبلي كله بلداً بلداً وقرية قرية في عشرين يوما ينام ساعة أو بعض ساعة في القطار وهو يضع رأسه تحت ذراعه وهم يتحدثون من حوله .

·        فإذا سافر مع أصحابه أشرف علي نومهم وبحث عن الأسرة والغطاء وكل أمورهم فإذا اطمأن إلي أنهم رقدوا عاد إلي حجرته يتوضأ ويصلي هزيعاً من الليل ويناجي حتى الفجر ثم ينام بعده ساعة أو ساعتين يستيقظ بعدها فتيا قويًا ، وسرعان ما يرتدي ثيابه ويتناول إفطاره ويكون في الطريق إلي العمل يجتمع مع أهل كل بلدة خاصة فإذا انتهي جمعهم في جماعة عامة .

·        وربما يزور بلدة من البلاد لأن له فيها مريداً واحداً وكان من عادته أن يزور إخوانه في أماكنهم ولا يحملهم مشقة الانتقال إليه ، فيركب الحمار والجمل والفرس ويركب القطار والأتوبيس والسيارة والمركب والمعدية ويمشي أحيانًا .

  * وكان كثيراً ما يحدث في أول الأمر أن ينزل بلداً من البلاد ويكون الوقت عصراً مثلاً فيتوجه إلي المسجد وبعد أن يصلي مع الناس يقف بجوار أحد الأعمدة ويستأذن الإمام في الكلام ، ويأخذ في تفسير حديث من أحاديث رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم يستطرد إلي ما يريد أن يقول في يسر وبساطة ، وقد ينصرف الناس بعد أن يستمعوا إلي حديثه فيكون من أمره أن يبيت بالمسجد بعد أن يتوسد ذراعه وينام علي حصير الجامع ويتغطي بعباءته .

·         وقد قدر له أن يزور أربعة ألاف قرية في القطر كله وكان يخطب في كل بلدة ، وكان يأكل طعام الغداء مرتين أو ثلاثة ويسر لإخوانه الحاضرين معه من القاهرة : " كلوا نصف بطن هنا فأمامنا غداء آخر في البر الغربي وإذا لم نأكل هناك يغضبون منا " .

وكان في هذا التنقل العجيب يعرف كثيراً : اللهجات ، الأخلاق ، الطبائع ، القصص ، الأسرار ، التاريخ ، البيوت ، العائلات ، الغني والفقير ، الحياة والموت .

وما كان يتمتع به الإمام الشهيد من قوة بدنية ، قادرة علي تحمل المشاق والمصاعب يصفه الأستاذ أنور الجندي حيث صحبه في رحلته للحج عام 1946م يقول : نركب السيارة بين مكة والمدينة ويصيبنا الدوار ولا يصيبه ، نأكل بعض الأصناف فتصاب أمعاؤنا ولا يصاب ، ندخل جو مكة الحار بعد جونا الرطب ، وجو المدينة الرطب بعد جو مكة الحار فتتأثر صدورنا بالزكام والسعال وهو لا يتأثر ، يتعبنا المشي والتصعيد في غار حراء وهو لا يتعب ، تزعجنا المشاق وهو باسم راض ، تتأفف نفوسنا وتتوتر أعصابنا لبعض المواقف وهو هادئ يرد عنا ما بنا من غلظة وجفاف .ذلك فضل الله وذلك نتيجة التمرس الدائم بأعباء الحياة وأجوائها وأطعمتها وأسفارها .

ومن لطيف ما يحكي في ذلك أنه لما دخل المعتقل في 16 أكتوبر عام 1941م وكان مع الأستاذ أحمد السكري ، وعبدالحكيم عابدين ، كان كثيراً ما يختلفان حول إعداد غرفة النوم أثناء النوم ، فقد كان الأستاذ أحمد السكري لا يستطيع أن ينام إلا إذا أغلق الشبابيك ، والزجاج والمنافذ كلها ، ولا يترك منفذاً أبداً ، وكان الأستاذ عابدين يقول له : " أن أكاد اختنق ، سأموت من الحر " وكان الأستاذ الإمام يضحك عليهما ويقول : " أضربوا رأسكما في رأس بعض " ، أنا سأنام فتحتم أو قفلتم .

  -ويعلق الأستاذ عابدين فيقول : والعبرة التي تأخذني أن الإمام الشهيد طيب الله ثراه ما كان يهمه أبداً أن ينام علي الأرض أو علي سرير ، في شباك مفتوح أو مغلق ، في حر أو في برد ، لا يبالي أبداً بشيء من هذا " .

الجانب العقلي

ليس المؤمن كما يتصوره الناس " كيس قطن " ولكنه كما جاء في الأثر " كيس فطن " وكما أخبر بذلك الخليفة الثاني رضي الله عنه " لست بالخب ولا الخب يخدعني " ، وهكذا فليكن الدعاة إلي الله : إيمان وتقي محوط بيقظة ودهاء يمكن الداعية من حسن التصرف في المواقف التغلب علي العقبات ، وقد كان الإمام الشهيد – رحمه الله – واحداً من هذه النماذج ، فلندع القول لمن عاصروه ورأوا المواقف بعيونهم شاهدة علي ذلك :

قال فضيلة الشيخ طنطاوي جوهري :" إنحسن البنا في نظري مزاج عجيب من التقوى والدهاء السياسي ، إنه قلب علي وعقل معاوية ، وإنه أضفى علي دعوة اليقظة عنصر " الجندية " ، ورد علي الحركة الوطنية عنصر " الإسلامية " ، وبذلك يعد هذا الجيل الإسلامي الحاضر النسخة الإسلامية الثانية الكاملة المعالم بعد الجيل الإسلامي الأول في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم .

·        ومما يذكر علي سبيل المثال أن أزهرًا أراد أن ينفر منه المستمعين بإثارة جدل عقيم حول جزئيات سخيفة في بدء حركته في الإسماعيلية , فسأله عن اسم والد " إبراهيم الخليل " في معرض قصته فقال له البنا : " إن اسمه " تارخ " وإن " آزر " عمه .

والقرآن يقول إن آزر أبوه ولا مانع من أن يكون عمه لاستخدام ذلك في لغة العرب وقال بعض المفسرين:

إن آزر اسم للصنم لا لأبيه ولا لعمه ونطق الإمام البنا كلمة تارخ بكسر الراء ، فرد عليه الأزهري إن الكلمة بضم الراء لا بكسرها إحراجًا له .. " وحين أراد الأزهري أن ينحو هذا النحو في كل درس تذرع بوسيلة تدل علي دهائه فدعاه إلي منزله وأكرمه وقدم له كتابين في الفقه والتصوف هدية وطمأنه علي أنه مستعد لمهاداته بما شاء من الكتب ، فطابت نفس الأزهري وواظب علي حضور الدروس وكف عن اللجاج .

       ولعل أشد المواقف امتحانًا لذكائه ودهائه كان عندما صادر إبراهيم عبد الهادي أموال الجماعة وطاردها بعنف وتهمها بتبيين الانقلاب وعدم الولاء للعرش ، فما كان من البنا إلا أن صرح بأن الهيئة ستأخذ بالنهوض بحالة البلاد من الناحية الدينية والاجتماعية والاقتصادية مهملاً الناحية السياسية التي توغل فيها أيما توغل إبقاء علي الجماعة في وجه العنف ، وهو موقف لا بد من أن يكون قد حز في نفسه ؤآلمه أشد الألم بعد أن كان يرجو أن يجعل من الإخوان " الإنقاذ وكتائب الجهاد " وبعد أن صرح مرارًا أن السياسة جزء لا يتجزأ من منهجهم .

       وأعطي هذا الرجل ذاكرة عجيبة لا تنسي اسمًا ولا وجهًا ولا مكانًا ولو طالت السنون ، ولذلك فهو يعرف أكبر مجموعة من الناس ويعرف عنها كل ما يحيط بها معرفة تامة ، ويعرف القطر مدنه وقراه ، ويعرف روح كل بلد ووضعها ونظم أهلها وتقاليدها وعاداتهم ومذاهبهم الدينية وكل ما يتعلق بكيانهم الروحي والاجتماعي والعقلي ، فيتمشي معهم ويحاول أن يرتفع بهم ، وكان يعرف أتباعه من صورهم وكانوا قد أرسلوا رسومهم وحضروا بعد عام فلما رآهم ناداهم بأسمائهم وكان يعرف أسماء أتباعه بعد أن يتلقي بهم للمرة الأولي وكان إذا سمع اسمًا ردده ، وإذا قيل له : فلان من عائلة " كذا " فتوقف وقال : هناك خمس عائلات في مصر تحمل هذا الاسم فمن أيهم هو ؟ .

عقله كأنه من المطابع التي تحفظ الصور والأسماء والأماكن علي كثرة ما لقي من الناس وشاهد من الصور والأماكن ، فقد طاف القطر من أقصاه إلي أقصاه المدن والقرى ، ورأي من المغرب والهند والشام والجزيرة العربية، وهو علي قدر ما التقي بالناس لا تغيب عنه أسماؤهم ولا أهدافهم ولا مسائلهم ، فذاكرته حافظة عجيبة الصمامات يفتحها في الوقت المطلوب , بالقدر المطلوب تحتوي شعرًا ونثرًا وأدبًا وتاريخًا وفقهًا وحديثاً وتصوفاً وقرآناً وطباً وقانوناً .

يصفه الأستاذ عمر التلمساني فيقول : كانت له ذاكرة غير مألوفة في قوتها : إذا سأل أخاً عن اسمه مرة وابنه وأبيه وعمله ثم التقي به بعد أشهر طوال حياه باسمه ، وسأله عن والده فلان ، وابنه فلان ، وكان ذلك مثار العجب عند الجميع ، ولو علمت عدد شعب الإخوان أيام حياته ، ولكل شعبة مسئول ثم هو بعد ذلك يعرف كل مسئول عن كل شعبة ،وهو الذي يعرف الآخرين بهم ، لأذهلتك هذه الذاكرة الجبارة ، التي ما ضاقت يوماً عن اسم أو غاب عنها حدث مهما طال به الزمن .

·        ومن الوقائع الدالة علي قوة ذاكرته رحمه الله :

    -       ما كان بينه وبين كتاب " مستقبل الثقافة في مصر " حيث طلبت منه جمعية الشباب المسلمين إلقاء محاضرة عن الكتاب بعد خمسة أيام ولم يكن عند الإمام الشهيد وقت يخصصه لقراءته إلا في فترة ركوبه الترام في الصباح إلي مدرسته ، وفترة رجوعه منها ، وكان يضع علامات بالقلم الرصاص علي فقرات معينة .
وفي الموعد المحدد ذهب الإمام الشهيد إلي دار الشباب المسلمين فوجدها علي غير عادتها غاصة بالحاضرين وهم من رجال العلم والأدب والتربية في مصر ونتركه يكمل القصة فيقول : " ووقفت علي المنصة , واستفتحت بحمد الله , والصلاة والسلام علي رسول الله , وبجانبي الدكتور يحيى الدرديري السكرتير العام للشباب المسلمين , ورأيت الكتاب كله منطبعاً في خاطري بعلاماتي التي كانت علمتها بالقلم الرصاص .
وبدأت أول ما بدأت فقلت إنني لن أنقد هذا الكتاب بكلام من عندي , وإنما سأنقد بعضه ببعضه , وأخذت – ملتزماً بهذا الشرط – أذكر العبارة من الكتاب , وأعارضها بعبارة أخري من نفس الكتاب , ولاحظ الدكتور الدرديرى أنني في كل مرة أقول : " يقول الدكتور طه حسين في الكتاب في صفحة كذا .. واقرأ العبارة بنصها أيضاً من خاطري.
ثم أقول : ويناقض الدكتور طه نفسه فيقول في صفحة كذا .. وأقرأ العبارة بنصها أيضاً من خاطري , فاستوقفني الدكتور الدر ديري , وطلب إلي أن أمهله حتى يحضر نسخة من الكتاب ليراجع معي النصوص والصفحات , لأنه قرأ الكتاب , ولم يلاحظ فيه هذا التناقض " وكأنه لم يقرأ العبارة التي يسمعها الآن ....
وأحضر له الكتاب , وظل يتابعني , فيجد العبارات لا تنقص حرفاً , ولا تزيد حرفاً , ويجد الصفحات كما أحددها تماماً , فكاد الدكتور الدرديري يجن , كما ساد الحاضرين جو من الدهشة والذهول والكل يتجه كلما قرأت من خاطري عبارتين متناقضتين إلي الدكتور الدرديري في كل مرة : " تماماً بالنصوص والصفحات " , وظللت علي هذه الوتيرة حتى أنهيت الكتاب كله ، وأنهيت المحاضرة ، فقام الجميع وفي مقدمتهم الدكتور الدرديري بين معانق ومقبل .

   -      وفي موقف آخر : قدم إليه أكثر من مائة " كرت " بأسماء شباب الجوالة في إحدى المحافظات لتوقيعها , فراح يمعن النظر في صورة كل جوال ويحفظ اسمه ولما توجه بعد أكثر من سنة لزيارة بعض قرى هذه المحافظات , كان يلتقي بالإخوان ويناديهم بأسمائهم , ولم يكن قد التقى بهم من قبل إلا من خلال تلك " الكرنيهات" فكان ذلك مثار دهشة الجميع .

مواقف مختلفة من حياته :

1 - قيام الليل

    ذهب الأمام الشهيد إلى مؤتمر بالمنزلة دقهلية وبعد الفراغ من المؤتمر ، و الذهاب إلى النوم ، توجه الإمام و في صحبته الأستاذ عمر التلمساني إلى حجرة بها سريران ، ورقد كل على سريره .

    وبعد دقائق قال الأستاذ : أنمت يا عمر ؟ .قال : لا . وتكرر السؤال . وتكرر الرد.وقال الأخ عمر في نفسه إذا سأل فلن أرد . وظن الأستاذ أن الأخ عمر قد نام . فتسلل على أطراف أصابعه ، وخرج من الحجرة ، وأخذ نعليه في يده ، وذهب إلى دورة المياه حافياً ، حيث جدد وضوءه ، ثم اتجه إلى آخر الصالة ، وفرش سجادة ، وأخذ يتهجد .

2. إننا مجاهدون بأموالنا

  - جاء مبعوث من السفارة الإنجليزية إلى دار المركز العام وقابل الإمام الشهيد وقال له:
إن الإمبراطورية من خططها مساعدة الجمعيات الدينية و الإجتماعية ، وهي تقدر جهودكم ونفقاتكم .. لذلك فهي تعرض عليكم خدماتها بدون مقابل وقد قدمنا مساعدات لجمعية كذا وكذا ... ولفلان و فلان .. وهذا شيك بعشرة آلاف جينيه معاونة للجماعة. فتبسم الإمام الشهيد وقال: إنكم في حالة حرب وأنتم أكثر احتياجاً إلى هذه الآلاف.
فأخذ المبعوث يزيد في المبلغ و الإمام الشهيد يرفض ..وكان بعض الإخوة يتعجبون ويتهامسون: لم لا نأخذ المال و نستعين به عليهم .
فكان جواب الإمام الشهيد: إن اليد التي تمتد لا تستطيع أن ترتد .و اليد التي تأخذ العطاء لا تستطيع أن تضرب .أننا مجاهدون بأموالنا لا بأموال غيرنا و بأنفسنا لا بأرواح غيرنا .

3 - أريدك معي في الوزارة

اتصل فؤاد سراج الدين في بداية بريقه بالإمام الشهيد وقال له : أريدك في أمر هام .

فقال الإمام : وما هو يا فؤاد باشا ؟
فقال الباشا : أريدك معي في وزارة الشؤون الإجتماعية .
فقال الإمام : أنا موظف أعمل بالحكومة في أي مكان أنتج فيه . و لكن لي شرط واحد يا باشا .
فقال الباشا : وما هو ؟
فقال الإمام : أن أنقل في نفس الدرجة و بنفس المرتب .
فقال الباشا : مستحيل فسيكون تحت أمرك من هو بدرجة مدير عام .
فقال الإمام : آسف يا باشا و أنا متمسك بشرطي .
فقال الباشا : أنا لا أستشيرك في الأمر ولكني أخبرك وسيصدر المرسوم الملكي بهذا الأمر .
فقال الإمام : سأعتذر ولن أحرج وسيكون الحرج لك والوزارة .
















0 comentarios:

Publicar un comentario